إن من أخطر الأعداء للإنسان على نفسه هم الأعداء الخفيون (المستترون)، الذين يعيشون بين ظهرانيه، ويستوطنون فيه، والذين يُصنفون في الظاهر على أنهم من الذات أو من ذوي القربى والعزوة ولحم الرقبة، ولكنهم في حقيقة الأمر يعسعسون في الظلام الأعمى الذي يحجب عنهم الوعي والإدراك ويمثلون دور أعدى الأعداء للإنسان، وهذا هو اليوم حال الناس، ويفسر جلياً ما ينتاب هذا العالم من ظلم وفتن، ومصائب ونكبات،وكوارث وفشل ذريع في الوصول الى كلمة سواء بينهم تحقن دماءهم. وقد بين لنا القرآن الكريم ذلك في أكثر من موضع، وفسره النبي الذي بعث للناس كافة والذي لا ينطق عن الهوى في أحاديثه الشريفة. ويخطيء من يعتبر أن محمداً بُعث رسولاً للأمة الإسلامية فقط وهو ملك لها دون غيرها ويتعنصر ويتحيز له، ويختصر رسالته العامة الشاملة بهديها للبشرية جمعاء، ويختزلها على نفسه ومن اتبعه في نهجه وفكره. ويبرؤ منها بقية الناس، المسلمة منها والمؤمنة بها، وغير المسلمة والناكرة لها، لأن الجميع سيعاقب على أساسها كآخر رسالة جامعة وخاتمة للرسالات.
قال تعالى في كتابه العزيز "إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجرٌ عظيم"، والفتنة هو البلاء أو الإختبار فإما أن تكون نتيجته النجاح والنجاة أو البلاء بالفتنة والهلاك، فهؤلاء (الأموال والأولاد) أمانة في عنق راعيهم من ضمن الأمانة التي حملها الإنسان وعجزت عنها السماوات والأرض والجبال لثقلها وعظمها وافتقادها للعقل وبالتالي جهلها لمسؤولياتها، وحملها الإنسان الذي وهبه الله العقل ولكنه كان ظلوماً جهولا إلاّ من وعاها ورعاها وهم القلة المتنحية وغير السائدة، فإن أوتي الإنسان المال، وأحسن التصرف به بأمانة وضمير، وطهره وزكاه من الخبث ووقاه من حسد المحرومين، فسوف يلقى الأجر العظيم عن فعله هذا بالآخرة علاوة على تمتعه به بالدنيا، وإن رزق بالأولاد (البنون والبنات)، وأحسن تربيتهم وتعليمهم فسوف يلقى الجزاء العظيم يوم القيامة علاوة على سعادته واعتزازه بنجاحهم في الحياة الدنيا.
صنف الله النساء والبنين والمال بأنهم من الشهوات، وهذا هو واقع الأمر، يتزوج الإنسان سواءً كان ذكراً أو أنثى لإشباع شهوة الغريزة الجنسية المتبادلة بين كل ذكر وأنثى وحفظ النسل، والشهوة تظهر جلياً بالذكر أكثر من الأنثى التي فطرها الله على الحياء لذلك قرنها الله بالذكور، وأودع في الإنسان كغيره من المخلوقات شهوة أن يكون له ولد من صلبه يحبه ويحمل إسمه ويمثل إمتداده على مر الزمان وتعاقب الأجيال، كما ويشتهي المرؤ المال لكي يتمتع ويشبع باقي غرائزه بهذا المال.حيث قال تعالى مصداقاً لذلك:
"زُيّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب". ولشمول المعنى فقد قال الله زين للناس، ولم يقل زين للذكور من الناس ويستثني الإناث، فالمعنى أن زينة الشهوات موجودة بالذكر والأنثى ولكنها تظهر بوضوح بالذكر، وهو قادر على التعبير عنها أكثر من الأنثى بالفطرة الخلقية، ولم يُستثنى رسول الله من حب الشهوات، فهو بشر أودع الله فيه الغرائز والشهوات، يتزوج النساء ويحب البنين، حيث روي عنه أنه كان يخطب الناس في يوم من الأيام، فمر الحسن والحسين وهما طفلان بقميصين أحمرين يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله عن المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه ثم قال" صدق الله ورسوله، إنما أموالكم وأولادكم فتنة، نظرت الى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما".
الشهوات والغرائز على الرغم من أنها إكسير الحياة الدنيا ووقودها وسلوانها عن التفكير بالموت الذي ينتظر الإنسان ولا يعرف له موعداً، وهي خيوط مزدوجة القطبية، القطب الجاذب للمعصية والقطب المنفر منها في نفس الوقت، فمن تحكم في شهواته وغرائزه وأشبعها بالطرق الحلال واقتنع بقسمته ونصيبه شاكراً حامداً لله فقد تنافر مع المعاصي، ومن انقاد لغرائزه وشهواته فقد جذبته خيوط الشهوات والغرائز وأغرقته بالمعاصي والموبقات.
لذلك يمكن لهذه الشهوات والتي منها (الأزواج والمال والبنون) أن تكون عوناً للإنسان في الحياة الدنيا والنجاة منها بنجاح الى الدار الآخرة، ويمكن أن تكون عدواً لدوداً له تنزله منازل الردى والفساد والهلاك والويل بالآخرة. فهي إما صديق ناصح وفي مخلص له، أو عدوٌ للإنسان يخلقه هو لنفسه من ذاته، فيصبح العدو المستتر في ضميره، فيوقعه مواقع سوء المصير والمنقلب.
ومصداقاً لذلك قوله تعالى" يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم، وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفورٌ رحيم، إنما أموالكم وأولادكم فتنة، والله عنده أجرٌ عظيم، فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون، إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكورٌ حليم" صدق الله العظيم. والأزواج هنا مقصودٌ بها الذكر والأنثى.
وقد بين رسول الله شرحاً رائعاً ومختصراً فيه الكفاية لهذه المفاهيم الواردة بالقرآن الكريم حيث قال صلى الله عليه وسلم:
"ليس عدوك الذي إن قتلته كان فوزاً لك، وإن قتلك دخلت الجنة، ولكن الذي لعله عدوك ولدك الذي خرج من صلبك، ثم أعدى عدو لك مالك الذي مَلَكتْ يمينك"
من يمعن النظر في معاني هذا الحديث العميقة، يدرك مدى استخفاف واستهجان الرسول لأعمال القتل المتبادل بين الناس، وهو موجه للبشرية جمعاء، فإن كنت اليوم أيها الإنسان قاتلاً فائزاً منتصراً، فستصبح يوماً ما مقتولاً مهزوماً، وستدخل في دوامة القتل والقتل المضاد، وإن كان بإمكانك معالجة الإختلاف مع خصمك بالحوار والحكمة وقياس للمعطيات والقدرات الواقعية، والوصول الى تسوية بتبادل المنافع وتجنب القتل والحروب وحقن الدماء فستكون أنت وخصمك الرابحين. وخلاف ذلك ستكون أنت وخصمك الخاسرين. ويمكن الوصول لهذه النتيجة بتربيتك لأولادك التربية السليمة ضمن الضوابط والمباديء السماوية التي نزلت على الأنبياء، وبحسن تصرفك بمالك وإنفاقه في أوجه الخير، وتطهيره من الخبث والدنس والحرام وتزكيته ووقايته من الحسد والظلم. وخلاف ذلك فسوف تخلق لك عدواً من نفسك، ربما يكون ولدك الذي لم تحسن تربيته أو مالك الذي أغواك وأغرقك بالموبقات.
ومن يحتار في حال الأمة اليوم، وفي هذا العالم الظالم بمقاييسه البشرية المختلة، يجد الجواب في هدي القرآن والسنة النبوية، فأموال الأمة وخيراتها وكنوزها، فتنت المتربصين الطامعين بها، وجلبتهم اليها يسطون على كنوزها ويستعمرونها بالسوط والسيف، يستخرجون منها الخيرات ليتمتعوا بها بأنانية وشهوة الجشع للمال، دون إشراك أهلها بخراجها واقتسامها بالعدل بينهم وبين ساكنيها، مما أشاع الفقر والجوع والحقد في قلوب أبنائها، فأخفق الآباء في تربية الأبناء نظراً لضيق الحال، فتحول فئة من الأبناء من رحم الأمة الى أعداء لها، مما أوغل صدورهم وملأها بالحقد على واقعهم المؤلم، وشاعت الفتنة بينهم وعاثوا قتلاً في بعضهم البعض، فتمزق نسيج الأمة، وتمزقت وتشرذمت، وصار فئة من أبناء الأمة ممن انحرفت عقولهم وتصلبت أفكارهم، وامتلأت صدورهم غلاً وحقداً على واقعها عوناً لأعداء الأمة عليها، ومن أبناء الأمة فئة خرجت عن الفطرة والمألوف في تنوع الخلق واختلافهم، بالفكر والمعتقد والشكل واللون، وأعلنت نفسها عدواً للأمة، وناصبتها العداء، وتريد قتلها واستبدالها بأمة جديدة مفصلةٍ على مقاييسها البشرية القاصرة، تحمل فكراً واحداً ومعتقداً واحداً نافية لفطرة التنوع، ومكبلة للإنعتاق وقامعة للحريات التي أباحها الله في خلقه، حيث قال تعالى " ومن آياته خلق السموات والأرض، واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين"
وعاثت هذه الفئات الضالة في أرض الأمة قتلاً وفساداً جهاراً ونهاراً، وتحولت الى قنابل تتفجر في قلب الأمة لا تبقي ولا تذر، ولا تفرق بين الطفل والبالغ ولا بين المسن والشاب، فأغمد الأعداء الطامعون سيوفهم في استراحة وفرجة استهجانية على هذه المهزلة، وصارت الأمة تخوض حروباً ضد نفسها بالإنابة عن أعدائها الجشعين الطامعين بها وبخيراتها وكنوزها. فتحول الأبناء منها الى معاول هدم، وصار المال والخير وبالاً عليها أوردها الى أتون الفتنة ووديان الويل والهلاك.
بقلم / أحمد ابراهيم الحاج
27/11/2013 م