في التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني وفي كل عام يـُقرع جرسٌ فلسطيني ليذكرنا بقرار التقسيم رقم 181 لعام 1947 ، هذا القرار الذي جاء فيه (3 ـ تنشأ في فلسطين الدولتان المستقلتان العربية واليهودية والحكم الدولي الخاص بمدينة القدس، المبين في الجزء الثالث من هذه الخطة، وذلك بعد شهرين من إتمام جلاء القوات المسلحة التابعة للسلطة المنتدبة، على ألا يتأخر ذلك في أي حال عن 1 تشرين الأول (أكتوبر) 1948. أما حدود الدولة العربية والدولة اليهودية ومدينة القدس فتكون كما وضعت في الجزأين الثاني والثالث أدناه ) .
وبعد ستة وستين عاماً ما زلنا نستذكر هذا القرار الذي أنشأ الدولة اليهودية على أرض فلسطين محققاً بذلك وعد بلفور في الثاني من تشرين الثاني عام 1917 ، وطنٌ قوميٌ يهودي ، أو دولةٌ يهودية ، أو كيانٌ صهيوني ، أو ما عرف دولياً بإسرائيل ، سمه ما شئت أن تسميه ، لكنه في الحقيقة هو المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني لحماية المصالح الاستعمارية في المنطقة العربية .
قرار التقسيم ، تقسيم فلسطين تم رفضه فلسطينياً وعربياً في ظل ضعف عربي ظاهر مقابل حركة صهيونية قوية استخدمت كل وسائلها لانجاز نتاج مؤتمرها الأول في آب 1897 الذي نفى وجود الشعب العربي الفلسطيني على أرض فلسطين تحت مقولة أرضٌ بلا شعب لشعب ٍ بلا أرض ، لم تكن مجرد فكرة ، ولم يكن مجرد حلم ، وإنما كان هدفاً استعمارياً صهيونياً يجب إنجازه ولو على المدى البعيد ، وهذا يحدد منذ بداية نشوء القضية الفلسطينية صفة الصراع على أرض فلسطين بأنه صراع وجود لا نزاع حدود .
منذ صدور قرار التقسيم سارعت الحركة الصهيونية مدعومة بقوات الانتداب البريطاني على تعزيز قدرتها العسكرية وبناء مرتكزات دولتها القادمة ، بينما كان العرب يرسلون جيوشهم الضعيفة إلى أرض فلسطين لحماية فلسطين من التقسيم ، ولكن ما حدث على الأرض هو أنّ الجيوش العربية بضعفها وتفرقها لم تكن تملك القدرة على إمكانية مواجهة الصهاينة ، فتحققت هزيمة العرب فيما سمي حرب عام 1948 ، والتي كان من نتائجها ما سمي بالنكبة الفلسطينية التي جعلت الفلسطينيين مطرودين خارج وطنهم فلسطين ، وعندما حطت الحرب أوزارها بتحقيق الحلم الصهيوني بالتخلص من الفلسطينيين وإعلان قيام دولتهم ليس على المناطق التي أعطاها لهم القرار 181 بل لتصل نسبة الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 ما نسبته 78% من مساحة فلسطين التاريخية ، بينما أصرّ العرب والفلسطينيون على رفضهم قرار التقسيم حتى بعد تنفيذه صهيونياً على الأرض ، فلم يسارع العرب والفلسطينيون للتمسك بما تبقى من أرض فلسطين لتبقى تحت اسم فلسطين ، وبدل أن يُعلن عن قيام الدولة العربية الفلسطينية آنذاك بعيداً عن القبول بقرار التقسيم وجد العرب أنفسهم أمام شطب الدولة الفلسطينية من الخارطة السياسية الدولية والمعترف بها من خلال قرار التقسيم وذلك بضم ما عُرف بالضفة الغربية إلى إمارة شرقي الأردن لتنشأ بذلك المملكة الأردنية الهاشمية ، ووضع قطاع غزة تحت الإدارة المصرية ، مما أدى إلى غياب العنوان الفلسطيني المادي للقضية الفلسطينية .
وأمام الوضع المأساوي الفلسطيني الذي تمثل بوجود مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية المجاورة أنشأت الأمم المتحدة وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين والتي أخذت بعداً إنسانياً في معالجة نتائج النكبة الفلسطينية ، وأصبح الفلسطينيون أكثر اهتماماً بوضعهم الإنساني من وضعهم السياسي الذي أخذ يتنامى شيئاً فشيئاً بعد أن تم الاستقرار المعيشي للفلسطينيين في مخيّماتهم .
والفلسطينيون وبعد ستة وستين عاماً من صدور قرار التقسيم وضياعهم لفرصة إعلان دولتهم بعد وقوع النكبة نجدهم اليوم يؤكدون على ما رفضوه سابقاً وأنّ القبول به يشكل خيانة وطنية وقومية وذلك من خلال دخولهم في مفاوضات عبثية تقوم على مبدأ حل الدولتين ، لأنّ الدولتين المعنيتين هنا ليستا دولتي قرار التقسيم ، وإنما دولتا الأمر الواقع القائم الآن ، وهو بعيد كل البعد عن مضمون قرار التقسيم 181 ، لأنه خلال العقود السبعة الماضية نشأت على الأرض متغيرات جذرية ، فلم تعد الدولة اليهودية مجرد دولة عصابات وإنما أصبحت بقوتها تهدد ليس الدول العربية وحسب وإنما تهدد منطقة الشرق الأوسط بأكمله ، وفي المقابل تحول الفلسطينيون من مجرد لاجئين إلى شعب له كيانه السياسي المتمثل بمنظمة التحرير الفلسطينية المجسدة لأهداف الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الفلسطينية المستقلة على الأرض الفلسطينية عام 1967 وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي أخرجوا منها عام 1948 .
إذاً فقرار التقسيم يعود اليوم إلى الساحة الدولية بشكل مختلف عن مضمونه عام 1947، فتقسيم اليوم يختلف عن تقسيم 1948 ، تقسيم 1948 نشأ معترفٌ به من الشرعية الدولية ، بينما تقسيم اليوم بحاجة إلى اعتراف به حين إقراره من خلال المفاوضات ، رغم القبول الأممي بدولة فلسطين كمراقب غير عضو في الأمم المتحدة حسبما جاء في القرار رقم 19/67 الصادر في التاسع والعشرين من تشرين الثاني عام اثنا عشر وألفين و الذي ينص على 1
- تؤكد من جديد حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والاستقلال؛ في دولته فلسطين على الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام ١٩٦٧
٢ - تقرر أن تمنح فلسطين مركز دولة مراقبة غير عضو في الأمم المتحدة، دون مساس بحقوق منظمة التحرير الفلسطينية المكتسبة وامتيازاﺗﻬا ودو رها في الأمم المتحدة بصفتها ممثل الشعب الفلسطيني، وفقا للقرارات والممارسة ذات الصلة؛
٣ - تعرب عن أملها في أن يستجيب مجلس الأمن للطلب الذي قدمته دولة فلسطين في ٢٣ أيلول/سبتمبر ٢٠١١ من أجل الحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة .
ونحن نجد أنفسنا اليوم أمام نفس الكارثة عام 1947 ، حيث أنً قرار قبول فلسطين دولة مراقب في الأمم المتحدة يتطلب فعلاُ فلسطينياً على الأرض منذ اللحظة الأولى لهذا القبول الأممي ،ولكن القيادة الفلسطينية لم تتعامل مع تلك اللحظة التاريخية تعاملاً جدياً وإنما تراخت في جعل هذا القرار مجرد قرار لا أكثر ، والفعل الفلسطيني المطلوب اليوم هو :
1= الانتقال من مرحلة السلطة إلى مرحلة الدولة وإن كانت تحت الاحتلال ، وذلك من خلال إنهاء العمل بكل مؤسسات السلطة وإنشاء مؤسسات الدولة بما في ذلك الرئاسة والحكومة والمجلس التشريعي والأجهزة الأمنية والشرطية .
2= المسارعة الفورية لدخول دولة فلسطين إلى كافة المنظمات الدولية بما فيها محكمة الجنايات الدولية .
وإذا لم تسارع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بالعمل الجاد لتجسيد الدولة الفلسطينية كونها تحت الاحتلال ووضع العالم كله أمام متطلبات حل قضية اللاجئين الفلسطينيين من خلال تنفيذ القرار الأممي 194 فإنّ ذلك سيجعل الفلسطينيون يذهبون في تيه جديد في ظل المتغيرات القائمة في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط ، وفي ظل مشروع صهيوني جديد لترحيل الفلسطينيين من أرض الضفة الفلسطينية القائم على ترحيل نحو ثلاثين ألف أسرة فلسطينية كل عام بإغراءات مادية تصل إلى نحو 27000 دولار للأسرة الواحدة مع تأمين متطلبات المعيشة والحياة في المهجر ، مستغلة الوضع الأمني السياسي والاقتصادي والاجتماعي السيء في الضفة الفلسطينية .
والتضامن الدولي مع الشعب العربي الفلسطيني المطلوب اليوم ليس تضامناً إعلامياً فقط ، وإنما المطلوب تضامن من أجل التصدي للمخطط الصهيوني بإلغاء الوجود الفلسطيني على الأرض الفلسطينية وذلك من خلال عدم السماح للكيان الصهيوني بفرض هجرات جماعية فلسطينية من داخل فلسطين باتجاه دول المهجر ، وذلك لا يتم إلا بمساعدة الفلسطينيين على التمسك بوجودهم على أرضهم من خلال دعمهم اقتصاديا وسياسياً ، وإلا سيكون التضامن وسيلة من وسائل الضغط على الفلسطينيين لمواجهة مصيرهم بأنفسهم دون تقديم أية مساعدة دولية لهم على أرضهم .
وقبل كل ذلك المطلوب من كافة القوى الفلسطينية أن تكون واعية لما يجري اليوم بأن تضع المصلحة الوطنية الفلسطينية قبل مصالحها الفئوية والحزبية ، وعلى أن يعود الجميع إلى البيت الفلسطيني لإعادة ترميمه بأجندة فلسطينية خالصة مراعية الأبعاد العربية والإسلامية والدولية للقضية الفلسطينية .