كان من أبرز مبادئ حركة المقاومة الإسلامية (حماس) منذ إنشائها قبل أكثر من عقدين ونصف من الآن، هو تحرير الأراضي الفلسطينية عن طريق المقاومة المسلحة، ورفض الحلول السياسية التي كانت حركة (فتح) قد بدأتها منذ أواخر عام 1988، واستعدادها أمام المجتمع الدولي هجر البندقية وطي صفحة العنف ضد إسرائيل وقبول الحلول السلمية التي تتماشى مع متطلبات الفلسطينيين وطموحاتهم.
وبسبب هذه الأيديولوجيا المتشددة بالنسبة إسرائيل، فقد دخلت الحركة في خلافات معمّقة مع بعض الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حركة فتح باعتبارها رائدة الحركات على الساحة الفلسطينية وقائدة منظمة التحرير الفلسطينية المعترف بها عربياً ودولياً باعتبارها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، وسجلت العديد من خلافاتها على مدى السنوات التالية التي شهدت انعطاف حركة فتح بصورةٍ أكبر، إلى الحلول السلمية منذ مؤتمر مدريد أواخر عام 1991، واتفاق أوسلو 1993، والذي تمخّض عن إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، حيث كانت تُتوج تلك الخلافات وأعمال العنف في كل مرة، بأن تلجأ السلطة إلى أساليب تهدف إلى عرقلة مسار الحركة، من رسائل تحذير واعتقال وتضييق وإغلاق مؤسسات تابعة لها وحجز أموالها وهكذا. ومن ناحيةٍ أخرى فقد أوغلت الحركة وبصورةٍ أعمق في مجالات الصراع المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي، حيث سعت إلى تكثيف هجماتها المسلحة في كل مكان، سواء كان داخل الأراضي الفلسطينية أو في العمق الإسرائيلي والأطراف، والتي كانت تهدف إلى تحرير الأرض من ناحية، وكعمليات انتقامية من ناحيةٍ أخرى، ومن ثالثة، عرقلة المسيرة السلمية الجارية بين الفلسطينيين والإسرائيليين بناءً على أوسلو.
تطوّر الخلافات مع حركة فتح في غياب النوايا الحسنة المتبادلة، والتباعد الكبير بين البرنامجين الفتحاوي والحمساوي وفوز حركة حماس في انتخابات المجلس التشريعي، أنتج صراعاً أيديولوجياً ودموياً في مناسبات عدة أدىّ في إثرها إلى سيطرة الحركة على قطاع غزة في صيف عام 2007.
أيضاً وبشكلٍ أصعب فقد عملت الحركة خلال تلك المدة، على تنفيذ العديد من الهجمات العسكرية ضد إسرائيل وخاصةً العمليات الانتحارية والتفجيرية الأخرى، وفي المقابل نفذت الأخيرة ثلاث عمليات عسكرية شاملة وهجمات متفرقة واغتيالات راح ضحيتها آلاف الشهداء من الفلسطينيين إضافةً إلى هدم بيوتهم وتخريب ممتلكاتهم. وعملت إسرائيل على اعتبار حماس حركة إرهابية لدي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وفيما بعد اعتبرت القطاع إقليماً معادياً.
في شأن المصالحة الفلسطينية، اعتقدت السلطة الفلسطينية، بضرورة أن تعود الحركة عما قامت به إبان سيطرتها على القطاع، وأن تنبري في برنامجها الوطني، بسبب أن هناك حاجة مُلحّة في ضوء صلف إسرائيل المدقع وممارساتها العنيفة ضد الشعب الفلسطيني، وسيساعد في ذلك أزماتها المختلفة وعلى رأسها الجوانب المالية وعزلتها على الصعيد الدولي إلى جانب امتعاض شرائح مختلفة من حالة الانقسام الحاصلة. لكن وعلى عكس ذلك تماماً، فقد كانت الحركة أكثر تماسكاً وأكثر ثقةً بنفسها، لا سيما بعد العدوان الإسرائيلي الأخير أواخر 2012، حينما رأت وبإصرار، بأن على السلطة إعادة النظر في برنامجها السياسي، والتخليّ عمّا يُسمى بالعملية السلمية، بسبب أنها جاءت نتائجها عكسية، الأمر الذي باعد أكثر بين الحركتين بالإضافة إلى جوانب أخرى.
ومن جهتها اعتقدت إسرائيل بأن الضربات الموجعة التي تلقتها الحركة على مدار تاريخها وبشكلً أكبر في السنوات الأخيرة إلى جانب الحصار المفروض عليها، وطمعها في حذف اسمها من قائمة الإرهاب، كفيلة بأن تنحني جانباً سلاحها، وتقلل من سقف أيديولوجيتها وإن بالجنوح إلى التماهي مع السلطة الفلسطينية على الأقل. لكن أيضاً ذلك لم يكن صائباً تماماً وظلّت الحركة تتمسك بالمبادئ التي اصطبغت عليها منذ البداية وبصورة أكبر وأعمق، بغض النظر عن نسبة الهدوء المتوفّرة التي تشهدها المنطقة بشكلٍ عام.
في الفترة الأخيرة تكلّم بعض الخبراء الأمريكيون من خلال صحيفة النيوريبابليك الأمريكية، عن أن هناك بيئة جديدة ستشهد حركة حماس خلالها تغيراً سياسياً كبيراً، ربما تهجر معه المقاومة، ولا أدري كيف ألجأتهم تحليلاتهم إلى هذه الاستنتاجات، لا سيما وأنهم اعتمدوا في تحليلاتهم على أمور لا تعدو كونها مجرّبة وعاصرتها الحركة دقيقة بدقيقة، ولم توحي البتّة إلى حدوث شيء من ذلك. صحيح أنها كانت مؤلمة للوهلة الأولى، لكنها سرعان ما تستعيد عافيتها بسرعة وبشهادة إسرائيلية بشكلٍ خاص.
لقد رأى هؤلاء أنه وخلال غمرة الاضطرابات أو ما يُعرف بالربيع العربي التي عمّت أرجاء الشرق الأوسط، كان جانب قطاع غزة الحدودي مع إسرائيل وحده ينعم بالهدوء على نحو مثير للدهشة. واعتماداً على تصريحات د. "محمود الزهار"، وزير خارجية حكومة حماس، بأن ليس من مصلحة الحركة تعزيز الاضطرابات في الوقت الراهن. وعزا بعضهم هذا الهدوء إلى أن حماس وفي غمرة فقدها حكم الإخوان في مصر، ربما أدركت في اللحظة الراهنة على الأقل قوّة الردع الإسرائيلي وأن خسائرها جراء العنف ستفوق بكثر على مكاسبها. وكان علّق المتحدث الإعلامي باسم الجيش الإسرائيلي في الفترة القريبة الماضية "بيتر ليرنس" أن حماس أظهرت على مدار العام الماضي استعدادها، وفي بعض الأحيان رغبتها، للحيلولة دون توجيه هجمات ضد إسرائيل والعمل على استقرار المنطقة. وفي الصدد نفسه، نُقل عن مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق "ياكوف أميدرور" إن حماس أدركت أن ثمة ثمناً باهظاً تدفعه مقابل إطلاق الصواريخ على إسرائيل أو عدم منع الآخرين من عمل ذلك.
كان بادياً للعيان اتساق هذه التصريحات مع حقيقة انخفاض عدد الصواريخ المتجهة من القطاع صوب إسرائيل بنسبة ملحوظة، وبالمقابل لم تكن إسرائيل ترد بشكل مبالغ فيه كما في المرّات السابقة، بل وعملت على التليين من قبضتها المحاصِرة، من حيث تكثيف التبادلات التجارية على المعابر، كما ضاعفت مساحة رقعة الصيد البحري أمام صيادي القطاع إلى ستة أميال بحرية. وللمرة الأولى منذ سنوات، سمحت بدخول مواد البناء للاستعمال الخاص إلى القطاع في فترة فائتة من الآن.
وكان من الطريف، أن لجأ بعضهم إلى الاعتقاد عن أن حماس، ليست أولى الحركات الفلسطينية المسلحة التي تدعو إلى تدمير إسرائيل؛ حيث سبقتها حركة فتح في هذا المضمار إبان فترة الستينيات ومع مرور الزمن تحولت إلى الاعتدال، وها هي تدعم حل الدولتين. بما يعني أن هناك تطورات ستؤدّي إلى أن الحركة، ربما تهتدي بـ (فتح) وتنتهج الواقعية السياسية بدلاً من أيديولوجيتها في المقاومة.
كانت التوقعات الآنفة الذكر تُمثّل خطأً لديّ على الأقل، بسبب عوامل جوهرية، لسنا بصدد ذكرها، ولكن في أقصاها أن حركة حماس هي حركة إسلامية، وفي أدناها، الجمهور الذي يؤيدها أو يتعاطف معها. وربما ممّا صح ذكره فقط، هو أن هناك ظروف تتحكم في مسيرة الأحداث لاسيما العسكرية منها، ومن الطبيعي أن ليس في مصلحة حماس، في ظل تلك الظروف، مهاجمة إسرائيل، بسبب أن الإقدام على مثل ذلك يحتاج إلى دراسة وإعداد - الترتيبات والخطط - كما في كل المواجهات العسكرية، إذ ليس معنى التهدئة أو حتى المدافعة عنها بأي حال، نسخ المبادئ (نهاية المقاومة). وإلاّ لما شهدنا ونشهد حتى الآن الإعداد لتكريس وتعظيم سُبل المقاومة من خلال إعدادات مختلفة ومنها حفر الأنفاق وتطيير المناطيد. وحتى إذا ما افترضنا جدلاً بأن الحركة ستتخلىّ عن المقاومة في يومٍ ما - وهذا مستبعد جداً - فلن تكون الحركة تحت هذا الاسم وإنما تحت مسمّىً آخر.
خانيونس/فلسطين
30/11/2013