حزب العمل وصراع الأجنحة

بقلم: علي بدوان

انتهت قبل أيام قليلة أعمال المؤتمر العام لحزب العمل «الإسرائيلي» (حزب الماباي) والذي شَهِدَ تحولاً جديداً داخل صفوفه في سياق صراعات الكُتل والأجنحة، وقد تَمَخَضَ عنه انتخاب رئيس جديد للحزب هو (إيزاك هرتسوج) أو (بالعربي : إسحق هيرتزوغ) خلفاً لزعيمة الحزب السابقة (شلي يحيموفيتش) التي اعترفت في وقت لاحق بتعاطيها المخدرات، حيث يَندرج ويُحسب سلوك الأفراد في قيادة الحزب في إطار أوسع يعكس حقيقة حال الحزب التاريخي في «إسرائيل» الذي تهاوي وتراجع بشكل كبير خلال العقود الثلاثة الماضية حيث غادر الحزب مواقع «المناقبية العالية» من وجهة نظر عتاة الصهاينة من الذين يطلق عليهم مسمى بقايا «الحرس القديم» و«الأوفياء لصهيون».

اليهودي الإشكنازي

إذن، (إسحق هيرتزوغ) اليهودي الإشكنازي (من أصولٍ أوروبية) حقق فوزاً كاسحاً على (شيلي يحيموفيتش) إذ حصل على أكثر من (60%) من الأصوات. وهيرتزوغ (53 عاما) عضو في «الكنيست الإسرائيلي» عن حزب العمل منذ عام 2003، وشغل في وقت سابق مختلف المناصب الوزارية في حكومات الجنرال أيهود باراك والجنرال أرئيل شارون وأيهود أولمرت. وهو نجل الرئيس «الإسرائيلي» السادس الجنرال حاييم هيرتزوغ الذي كان شغل منصب الرئاسة في الدولة العبرية في فترة (1983 - 1993).

أعمال المؤتمر شهدت صراع أجنحة متعددة بين أقطاب الكُتل الأساسية داخل الحزب، بين أمرائه القدامى وما تبقى منهم داخل الحزب والأمراء الجدد الصاعدين على أنقاض حزب يتهاوى، في مشهد يعكِسُ التراجع المأسوي الكبير لحال الحزب في الشارع «الإسرائيلي» وهو الحزب المؤسس للدولة العبرية الصهيونية عام 1948، حيث فَقَدَ الحزب العدد الأكبر من قادته التاريخيين الذين غادروا مواقع الحزب بشكل نهائي منذ سنوات خلت، بينما انشق آخرون عن الحزب ليلتحقوا بأحزاب ثانية أو ليؤسسوا أحزابا صغيرة ما لبثت أن اندثرت في مسار الحياة السياسية الداخلية في «إسرائيل» وعلى رأسهم رئيس الدولة الحالي شيمون بيريس والجنرال إيهود باراك، وحاييم رامون... إلخ.

مؤتمر الحزب شَهِدَ صراعات ليس على الأفكار والمقترحات التي يزخر بها كل مؤتمر كما جرت العادة وعلى المواضيع ذات البعد الاستراتيجي والتي تتعلق بمصير الدولة العبرية وما يجري في البيئة الإقليمية في ظل عملية التسوية المأزومة والغارقة في الأوحال، إنما جرت تلك الصراعات على عناوين لها علاقة بإشكاليات الحزب الداخلية الصرفة، وحالة التراجع والتقوقع التي يشهدها منذ أكثر من عقدين من الزمن حيث النقص الكبير في الأفكار والمقترحات بشكل لا سابق له. فالمؤتمر الأخير للحزب والذي

انتهت أعماله قبل أيام خلت لم يكن سوى «مؤتمر من أجل البقاء قبل النهاية، قبل لفظ النفس الأخير» على حد تعبير واحدٍ من قياديي الحزب ومن المشاركين بأعماله.

فحزب العمل ضاع بين حومة اليمين واليمين المتطرف وبين دعوات سلامية كانت قد خرجت من بين صفوفه في مخاض عسير منذ ماقبل إنطلاقة عملية التسوية في المنطقة وتحديداً منذ انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى الكبرى نهاية العام 1987 حين رأى القائد التاريخي في حزب العمل إسحق رابين أن مسار التسوية التاريخية أمرٌ لابد منه مع الطرف الفلسطيني وصولاً لوثيقة الاعتراف المتبادل مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية.

وبالطبع، إن هذا التحول في مسار سياسات حزب العمل لم تكن لتأتي (صاعقة في سماء صافية) بل جاءت بفعل تعاظم الكفاح الوطني الفلسطيني في ظل الانتفاضة الأولى وتصاعد وتيرة الالتفاف والتضامن العالمي معها. وهو مادفع الحزب وفي برنامجه المطروح في حينها للاعتراف بالجزء الشرقي من المدينة المقدسة كعاصمة لدولة فلسطين عل النقيض مما كان سائداً في أدبياته من أن «القدس الموحدة عاصمة أبدية لإسرائيل»، وهو ما شكّل عملياً تحولا سياسيا ذا معنى في الحياة السياسية في «إسرائيل» وقد صعق اليمين واليمين المتطرف عموماً والجناح اليميني داخل حزب العمل، واعتبر ذلك بمثابة انحراف خطير.

لكن هذا التحول أصابَ الحزب في داخله بالانقسام وبروز حالات من التململ وبوادر الانشقاقات والتكتلات، شهد خلالها الحزب خضات واهتزازات دفع فيها إسحق رابين رأسه ثمناً على يد عضو الحزب اليهودي اليمني (إيغال عامير) الذي قتل إسحق رابين رمياً بالرصاص في ميدان «ملوك إسرائيل» وسط تل أبيب «احتجاجاً على ما أسماه تقديم رابين تنازلات للفلسطينيين بموجب اتفاقات أوسلو».

وفي الواقع الراهن، إن أبرز المؤشرات الملموسة التي تَدُلُ على التراجع الكبير في حضور حزب العمل داخل المجتمع «الإسرائيلي» يَتَمَثّل بما أحرزه الحزب من نتائج متواضعه في الانتخابات البرلمانية الأخيرة للكنيست التاسعة عشرة والتي جرت في الشهر الأول من العام الحالي 2013، حيث حَصَلَ الحزب على (15) مقعداً من أصل (120) مقعدا هي العدد الكلي لمقاعد الكنيست، بينما مرت على الحزب سنوات ذهبية كان يحصد فيها لوحده نحو نصف أعداد مقاعد الكنيست أو أقل بقليل، وهو ماكان يساعده على الدوام على تشكيل حكومات مستقرة لا ضرورة لوجود (بيضة قبان) لحفظ توازنها واستمرارها.

سياسات متشددة

وخلاصة القول، إن التقديرات تذهب للقول إن فوز إسحق هيرتزوغ على رأس قيادة حزب العمل «الإسرائيلي» قد يفتح الباب أمام تعاون أكبر مع حكومة بنيامين نتانياهو خاصة فيما يتعلق بمحادثات التسوية مع الفلسطينيين حيث يرتبط الإثنان بعلاقات جيدة على المستوى الشخصي وحتى السياسي من ناحية التجاوب والتناغم المتبادل. فحزب العمل الآن هو غير حزب العمل الذي كان يقوده إسحق رابين نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، ورئيس الوزراء الحالي نتانياهو سيتمتع حال دعم حزب العمل له بغطاء واسع من خلال هذا التحالف بين حزب العمل وحكومته، الأمر الذى سيمنحه وسيلة لعدم المضي قدماً فى المحادثات أو المفاوضات مع الطرف الفلسطيني مع تعطيلها المستمر لصالح استمرار سياسات الاستيطان والتهويد. ويشار في هذا السياق أن بعض المعلقين السياسيين في «إسرائيل» يتوقعون ويقدرون بأن حزب العمل يُمكن أن يُشارك في الحكومة الحالية في نهاية الأمر ليحل محل حزب قومي ديني معارض بشدة لتقديم «تنازلات» للفلسطينيين في المحادثات التي تتوسط فيها الولايات المتحدة.

وعليه، إن الذي يهمنا كفلسطينيين وكعرب أن الحالة «الإسرائيلية» الداخلية تبدو الآن اكثر تجنحاً وفرزاً نحو انتهاج السياسات المتشددة تجاه الفلسطينيين في مسار العملية السياسية التفاوضية التي تشهد كل يوم انتكاسات جديدة أكثر فأكثر، خصوصاً في ظل تراجع حضور القضية الفلسطينية وبروز مشكلات وملفات عديدة في المنطقة باتت تحظى بالأولوية عند مختلف الأطراف الفاعلة ومنها الأطراف الدولية المعنية برعاية العملية السياسية.

بقلم علي بدوان

صحيفة الوطن القطرية

الأربعاء 4/12/2013