لم ألتقيه مبكراً، ففي الوقت الذي كنت أحاول فيه أن أقف على أديم هذه الأرض، بدأ مشوار عطائه للأرض والوطن، وفيما كنا نبحث عن معاني الحروف والكلمات، كان يشرف على معسكرات التدريب في الجزائر، تلك الدولة الشقيقة التي أمضى فيها جل حياته، ينظر منها إلى الوطن وهو يثبت أدوات الانتماء اليه والتضحية من أجله، رافق الشهيد "أبو جهاد" في تاسيس اول مكتب لحركة فتح ليتولى "معتمد" حركة فتح في الجزائر وشمال أفريقيا عام 1965، استطاع خلال تواجده في الجزائر أن يوسع من دائرة العلاقات مع السلطة الجزائرية بما يفتح المجال أمام الطلبة الفلسطينيين للالتحاق بالجامعات الجزائرية عبر منح دراسية استفاد منها الآلاف من أبناء شعبنا، وفي ذات الوقت فتح أفاق العمل للفلسطينيين في الجزائر عبر اتفاقية وقعت يومها بين حركة فتح ووزارة الخارجية الجزائرية، لعل هذا التواجد الفلسطيني المميز أسس لعلاقة راسخة ربطت الجزائر حكومة وشعباً بالقضية الفلسطينية، وهو ذاته الذي عزز مكانة الجزائر لدى الشعب الفلسطيني.
العمل المميز للمناضل أحمد وافي "أبو خليل" في الجزائر جعل منه هدفاً لآلة الإجرام الصهيونية، حيث تعرض لعدة محاولات لإغتياله، كان من بينها الطرد الناسف الذي وصل سفارة فلسطين بالجزائر عام 1972، والذي أدى انفجارة لإصابة بالغة أفقدت المناضل "أبو خليل" للكثير من بصره وسمعه، قبل أن يعود المناضل "ابو خليل" إلى أرض الوطن كان قد سبقه إليه عطاؤه، فعرفناه قبل أن نراه، مثل زهرة بريه يصلك عبيرها قبل أن يسقط بصرك عليها، جمعتني بعد ذلك لقاءات عدة بالأخ "ابو خليل"، رغم تكرارها الكثير إلا أن الشعور الذي يتملكني في كل مرة أنني أمام قامة كبيرة، تفرض احترامها على من يقف أمامها، دمث الخلق لا يتنمق الحديث، ولا يمضي في سبر أغوار التاريخ كما يحلو لمن لا تاريخ لهم الامعان فيه بخيالهم الذي يعرف الجميع منا مساحة الصدق فيه، كنت دوماً أحاول أن أنتزع منه بعض الحديث عن الماضي، إلا أنه دوما ما كان يقل في ذلك، لعله يؤمن بأن التاريخ بحاجة لأن تمعن في قراءة أوراقه، لا أن تستمع لسرد ابطاله.
هل علينا أن نرثي مناضلينا؟، أم نقرأ حياتهم قراءة متأنية؟، وهل عليهم أن ينتقلوا للرفيق الأعلى كي نعرف قاماتهم ونقلب صفحات تاريخهم؟، وهل هم بحاجة إلى شهادة تكريم في مماتهم أم بحاجة أكثر إلى حفاوة في حياتهم؟، وهل انصفنا الكثير منهم بتأريخهم ام تركنا التاريخ يكتبه من يشاء، يحجب منه ما يريد ويجمل منه ما تطرب له حواسه؟، هل الرثاء من الوفاء أم أن الوفاء لا تسطره الكلمات؟، هل الموت بعيداً عن الوطن يشبه الموت في أحضانه؟، ترى ما هو الشريط الأخير الذي تقع عليه عينا مناضل أمضى عمره ينتقل من جبهة إلى اخرى بعيداً عن الوطن؟، أسئلة كثيرة تداخلت مع هاتف من الوطن يخبرني فيه صديقي برحيل المناضل "ابو خليل"، اسئلة لا يمكن الفصل بينها ومن الصعب التنبؤ بإجابة عنها، كأنها تريد أن تدخلك قصراً في دوامة ما يكتب وما يجب أن يكتب، لك يا صديقي الكبير سلام لروحك الطاهرة النقية بنقاء الوطن الذي آمنت به، سلام من أناس احبوك قبل ان يروك، سلام من أجيال تتلمذت على جمال العطاء وقيمة الانتماء للوطن غرستموها فينا، سلام لروحك وهي تطرق جدار الصمت الساكن فينا.