مانديلا قاهر الابرتهايد وملهم الاحرار

برحيل نيلسون مانديلا يكون أسدل الستار عن حقبة الثوريين الملهمين ليس لشعوبهم فحسب، بل لكافة الأحرار بالعالم، فنيلسون مانديلا لم يكن رجلا عاديا، بل كان مدرسة بالتضحية والصمود وسطر تجربة أصبحت منارة وهدي لكل من ينشد الحرية.
سبعة وعشرون عاما في سجون النظام العنصري الجنوب إفريقي، لم تثنه عن المضي قدما من اجل شعب تجرع القمع وحرم من حقوقه المدنية والسياسية، وعومل كالحيوانات في موطنه الأصلي على يد مهاجرين بيض، هولنديين وانجليز وغيرهم من الأوروبيين، يحملون النزعة العنصرية والتمييز بين بني البشر، والتي سرعان ما تحولت الى قوانين للتمييز على أساس اللون والعرق بعد نجاح الحزب الوطني بانتخابات عام 1948.
كان لصمود قبائل جنوب إفريقيا ومواطنيها الذين تجرعوا قوانين النظام العنصري وافتضاح نظام الابرتهايد، أن جعل العالم يقف مشدوها وقلقا على حجم الجريمة الإنسانية التي ترتكب ضد شعب اعزل جريمته الوحيدة المطالبة بالمساواة وإلغاء قوانين التمييز. فكان أن تم عزل دولة جنوب إفريقيا من قبل غالبية دول العالم التي رفضت القوانين الجائرة التي فرقت بين بني البشر، من هنود وسود وخلاسيين، ووضعتهم بمراتب متدنية، ومنعتهم من دخول مناطق البيض أو استخدام مرافقها وحتى طردهم من الأحياء القريبة من أحياء البيض، ووضعتهم بمعازل على غرار تلك التي عومل بها الهنود الحمر في أمريكا.
منذ مطلع التسعينات اخذ نظام العزل العنصري بالانهيار، ولم يصمد أمام الرأي العالمي المتصاعد في إدانة الإجراءات القمعية ضد الشعب الجنوب إفريقي وسجن قادته السياسيين وحتى تصفيتهم.
الحصار الدولي ضد نظام الابرتهايد ونضالات الشعوب الإفريقية نجحت في جعل الرئيس الجنوب الإفريقي فردريك دي كلارك، يعلن للعالم عام1990م فشل نظام التمييز العنصري وإنهاء القوانين المعمول بها. وقد تم الإفراج عن نيلسون مانديلا و صياغة قوانين جديدة تساوي بين البيض والسود، ونظمت اول انتخابات ديمقراطية عام 1994 فاز بها نيلسون مانديلا(رئيس حزب المؤتمر الإفريقي) برئاسة جنوب إفريقيا وأصبح تابو مبيكي نائبا أول ودي كلارك نائبا ثانيا له، واعلن مانديلا التسامح بين الشعب الجنوب الافريقي.
مانديلا لم يرد لنفسه الحكم مدى الحياة على خلفية نضالاته، فقد أعلن عدم ترشحه للانتخابات لفترة ثانية، مفسحا الطريق أمام قيادات جديدة لقيادة المرحلة الجديدة من تاريخ شعب جنوب إفريقيا. وتم انتخاب تابو مبيكي رئيسا عام 1999وخلفه جاكوب زوما الرئيس الحالي ذو الشعبية الواسعة بين الطبقات الفقيرة منذ عام 2009.
نيلسون مانديلا كان من اكبر المناصرين لحقوق الشعب الفلسطيني، وكان صديقا شخصيا للرئيس الراحل ياسر عرفات، فكلا الرجلين ظهرا بنفس الفترة وكل منهما قاد نضال شعبه من اجل الحرية. فهناك تشابها بين الرجلين بحجم المسئولية والتجربة النضالية التي خاضاها: الأول ضد آخر نظام عنصري بالتاريخ وانتزع حرية شعبه رغم ان الابرتهايد، والثاني ضد آخر احتلال عنصري لا يزال يمارس أبشع صور الإجرام على طريقة الأبرتهايد الافريقي وحتى بنسخة مطورة من ذلك النظام.
في واقع الشعب الفلسطيني هناك اعلام عديدة خاضت تجربة الاعتقال ولا تزال تخوضها بفترات تفوق ما قضاه نيلسون مانديلا بالأسر، وعانت أكثر مما عاني وبعضهم لفظ أنفاسه الأخيرة وراء القضبان، حتى أن الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة يعاني من معزل وحصار جائر أمام العالم اجمع، فحصار ما يقارب مليوني شخص في قطاع غزة والتحكم بالغذاء والماء والدواء دون رحمة، يعتبر تغييب للضمير العالمي الذي يشاهد الجريمة ويغض البصر وحتى يتواطأ مع آلة القهر بازدواجية معايير مخجلة.
مانديلا سيعيش في ضمير الشعب الجنوب إفريقي وفي ضمير كل محبي الحرية بالعالم، وسيبقى خالدا مع قيادات لعبت دورا عظيما ليس من اجل شعبها فقط ، بل من اجل سلام شعوب العالم أمثال: المهاتما غاندي، ونهرو، وجمال عبد الناصر،وياسر عرفات، وباتريس لوممبا، وهوتشي منه، وارنستو تشي جيفارا، وسيلفادور أللندي وغيرهم من العظماء على مر التاريخ.