يقولون ان التاريخ يعيد نفسه ،متناسين ان التاريخ مشدود بعنصرين لا فكاك منهما الزمان والمكان ،متى حدث ،وأين حدث ؟؟التاريخ هو تاريخ الناس ،هم من يصنعون تاريخهم ،الجماهير الشعبية ( الشعب ) هي القوة التي تصنع التاريخ ،أن تاريخ المجتمعات نضال بين الطبقات ،بين من يملك ولا يملك ،بين من يتعب ويشقى ومن يسرق تعبه ،بين الاحتلال وبين شعب يرفض الاحتلال ،بين الاستبداد والديكتاتورية من جهة وبين العدل والحرية .
في العام 1955 صنعت الجماهير الفلسطينية في غزة مجدا وتاريخا ،أسقطت أكبر مؤامرة لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء . فبعد هزيمة الجيوش العربية عام 1948،وإرهاب العصابات الصهيونية ،هاجر الى غزة الالاف من اللاجئين الفلسطينيين من قضاء غزة واللواء الجنوبي في فلسطين ،والبعض من الساحل الفلسطيني ،اكتظت بهم غزة في خيام اللجوء والصفيح ،ولما طال بهم المقام حاول البعض منهم التسلل الى قريته غير مبالين بدوريات اليهود وكمائنهم ،ولا بدوريات حرس الحدود العربية عند الجانب الآخر من الهدنة ،ومع تزايد عمليات تسلل الشباب الفلسطيني من قطاع غزة الى الداخل ،شنت قوات الاحتلال الاسرائيلي عدة غارات على مخيمات غزة ،وعلى اثر ذلك عقد مجلس قيادة الثورة المصرية اجتماعا طارئا برئاسة جمال عبد الناصر واتخذ قرارا بالرد على العدوان الاسرائيلي ،وضرب أهداف حيوية في العمق الاسرائيلي ،وأوكلت هذه المهمة الى القائد العسكري مصطفى حافظ الذي باشر بتشكيل قوة الفدائيين الفلسطينيين .
وكان ذروة العدوان الاسرائيلي ،الغارة الليلية على مخيم البريج ،ومحطة السكة الحديد في مدينة غزة مساء 28/2/1955،وعلى الحامية المصرية المرابطة حيث دارت معركة عنيفة ،استطاعت قوات الاحتلال أن تنصب كمينا بالقرب من وادي غزة سقط 24 شهيدا ،و 8 شهداء من قوة حرس الحدود المصرية ،ولإجبار اللاجئين على الموافقة على توطينهم في سيناْء . في نفس الفترة باشرت الاونروا بوضع مخططاتها العملية لتنفيذ مشروع التوطين في شمال سيناء ،برغم تأكيد الخبراء والأطباء باستحالة الحياة في سيناء ،ولقد تم اكتشاف المخطط عن طريق مناضلي الحزب الشيوعي الفلسطيني في القطاع ،سارع الحزب لترجمة المشروع الى اللغة العربية ،وطباعته بآلاف النسخ ،وتوزيعه في شباط 1955،والاتصال بالشخصيات الوطنية وبالمخاتير ،وبتحريض الجماهير ،وباشر بتشكيل لجان وطنية في المدن والمخيمات الفلسطينية بغزة .واستجابت الجماهير لدعوة الحزب ،وانطلقت المظاهرات من كل مكان من المدارس الثانوية والإعدادية ،ومن المخيمات ومن كل الاحياء الشعبية وهي تصرخ رافضة مشاريع التوطين "لا توطين ولا اسكان يا عملاء الامريكان " العودة العودة حق الشعب " ،واتجهت نحو السرايا الحكومية ،حيث اعترضتهم الشرطة ،وأطلقت النار على الالاف من المتظاهرين ،وسقط العديد من الشهداء منهم الشهيدين الشيوعيين حسني بلال والشهيد يوسف اديب طه ،ومع تدفق الدم الأحمر من شرايين الشهداء والجرحى زاد من غضب الجماهير ،وارتفع صوت معين بسيسو الأمين العام للحزب " كتبوا مشروع سيناء بالحبر ،وسنمحو مشروع سيناء بالدم "مما اضطرت الشرطة للهرب ،وان يعلن جمال عبد الناصر في خطابه الغاء مشروع توطين اللاجئين في سيناء ،وأن يقبر المشروع على يد الجماهير بقيادة الوطنيين والشيوعيين والديمقراطيين .
وتمر السنون طويلة رغم المعاناة والمأساة التي حلت بالفلسطينيين في كل مكان ،ويبقى الفلسطينيون الباقون على قيد الحياة محافظين على الوعد والأمل ،وعد العودة الى الوطن المسلوب مهما تكاثرت المحن ،وتغير الحكام العرب لا يغفرون ولا ينسون .وبعد ثورة 25 يناير 2011 المصرية ،ونجاح الأخوان المسلمون في الوصول الى السلطة عاد الحديث عن احياء مشروع توطين اللاجئين في سيناء تحت حجج واهية ،بالتواطؤ مع الولايات المتحدة الامريكية وبعض دول الإقليم كتركيا وقطر ،وتعهدهم بتوفير المساعدات المالية واللوجستية لتنفيذ هذا المخطط الذي لم تنجح كل المغريات والضغوط على الشعب الفلسطيني لثنيه عن حقه في العودة لوطنه طبقا للقرار الأممي 194 ،وكان الفلسطينيون يتوقعون ان تحاول حكومة الاخوان المسلمين في مصر الضغط على الولايات المتحدة الامريكية وإسرائيل ،والمجتمع الدولي لتنفيذ قرارات الشرعية الدولية ،وتحقيق اهداف شعبنا في الحرية والاستقلال والعودة ،وفك الحصار عن غزة ،لكنها تساوقت مع الولايات المتحدة الأمريكية سرا وعلنا ،من أجل تحقيق انهاء حق العودة ،وتعزيز الانقسام الفلسطيني ،وسحب الشرعية من منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ،وفتح قنصلية مصرية في غزة ،وقنصلية غزة في القاهرة ،والحديث عن بناء مليون وحدة سكنية في سيناء على الرغم أن عدد سكان سيناء لا يزيد عن 300 ألف نسمة ،أو استيعاب اللاجئين الفلسطينيين في شبرا حسب ما اوضحه د. محمد مرسي للرئيس الفلسطيني محمود عباس ،ومغازلة صديقه الوفي شمعون بيرس رئيس دولة الاحتلال الاسرائيلي ،ولتتكشف قضايا اخرى تمس الأمن القومي المصري بما فيها التنازل عن شلاتين وحلايب للسودان ،والحديث عن تأجير قناة السويس ،والإفراج عن المتورطين في عمليات ارهابية ،والسماح لهم بالتواجد في سيناء ،وما يتعلق بسد النهضة الاثيوبي الذي يشكل تهديدا لحياة المصريين وقد يكون كارثيا على مصر ،وسحب السفير المصري من سوريا التي تتعرض لهجمة شرسة من العالم الغربي برئاسة الولايات المتحدة الامريكية ودول الرجعية في تركيا وقطر ودول الخليج وهي التي تقيم أمتن العلاقات ألأمنية والتجارية مع اسرائيل .. الخ لكن الشعب المصري العظيم ذو التاريخ والحضارة والثقافة ،أحس بالخطر يداهمه ،ويهدد مكتسبات ثورة 25 يناير ويحرفها عن مسارها وشعاراتها " عيش وكرامة وعدالة اجتماعية "،وخصوصا بعد نجاح حركة الأخوان المسلمين الوصول الى سدة الحكم ،ومحاولتها الاستيلاء على كل مفاصل الدولة المصرية ،على طريق أخونتها ،وفرض رؤاها الظلامية على المجتمع المصري بطوائفه المختلفة ،فكانت ثورة الجماهير المصرية من عمال وطلاب ونساء وكادحين ومثقفين ومبدعين ومهمشين ... الخ تتوجه الى كل ميادين مصر بالملايين وخصوصا ميدان التحرير في العاصمة لتحمي الوطن من العبث والتبعية والظلامية والتطرف الديني ،فكانت ثورتي 30 يونيو ، 3 يوليو 2013 الحاسمتين لتسقط حكم المرشد والإخوان المسلمين ربما لعشرات السنين ،وتعيد لمصر دورها في المنطقة كرقم صعب ،وتوجه ضربة موجعة لمشاريع التبعية للولايات المتحدة الامريكية التى تسعى للحافظ على مصالحها العسكرية والنفطية والنفوذ في المنطقة ،وضمان أمن اسرائيل وتفوقها العسكري ،ولتوقف نهب خيراتها بما فيها وقف اتفاقية الغاز مع الاحتلال الاسرائيلي . لقد اكدت الجماهير المصرية بحماية جيشها العظيم قدرتها على تغيير البوصلة تجاه المصالح الوطنية والاقتصادية والديمقراطية للشعب المصري ،ولتعيد استقلالها الوطني وتفتح الآفاق التي كانت مغلقة امام مصر العروبة ،وتشطب كل محاولات توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء ،وتأكيد إصرارها على حماية كل حبة رمل في سيناء أو غيرها ،فهي غالية بحجم الشهداء الذين سقطوا دفاعا عن أرض مصر منذ بدء الحياة على الارض ،فالأوطان ليست للبيع او السمسرة .
فهل التاريخ يعيد نفسه كما يزعم اولئك الساكنون في غياب الوعي ؟؟ ان التاريخ تصنعه الجماهير ،فقد صنعته الجماهير الفلسطينية في غزة عام 1955 وأسقطت مشروع توطين اللاجئين في سيناء بالدم ،وصنعته الجماهير المصرية في 30يونيو و3 يوليو 2013 فأسقطت الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة ،ومعها اسقطت مشروع توطين اللاجئين في سيناء ،وأعادت الاعتبار للشعب المصري ،فالجماهير هي صانعة الحياة والحضارة والإبداع ،وتسلم الأيادي .