كل شيء في غزة تبلل بالمطر، الشوارع تغرق بماء المطر، والأرض تحشرجت من كثرة المطر، بعد أن ضاقت المسطحات الرملية التي كانت مهيأة لامتصاص المياه، وقد جادت السماء بكميات على غير عادتها، جادت حتى غرقت البيوت العشوائية، وفر منها ساكنيها، بعد أن بللهم المطر، فكل شيء في غزة قد تبلل بالمطر، حتى أن مزارع الدواجن تبللت بالمطر، فكشفت الدجاجات عن ساقيها للمستهلك بسعر زهيد.
كل شيء في غزة تبلل بالمطر، حتى أن نفوس الناس التي اشتعلت بالنقد قد أصابها البلل، فانكفأت على مواقد الحطب تبدد ظلمة انقطاع الكهرباء، وتعوض نقص غاز الطهي بالحديث عن أيام زمان، والأماني بأن تتحقق الأحلام، ولاسيما بعد أن ناشدت الحكومة في قطاع غزة الدول العربية والإسلامية بأن تنقذ أهل غزة من كارثة بيئية، وأن تعمل على فك الحصار عن غزة، تخفيفاً لمعاناة الناس.
في المقابل، هنأ الناطق باسم الحكومة الإسرائيلية أبناء جلدته بالأمطار، وطالبهم بأن يتمتعوا بمنظر الثلج الذي سيتساقط فوق المرتفعات، وأن يأخذوا حذرهم عند كل منعطف، فقد اتخذت البلديات الإسرائيلية كل الإجراءات المطلوبة لحماية المواطن، بعد أن خصصت مئات العربات لكل طارئ، واتخذت كل ما يلزم من وسائل الحامية والوقاية.
ولله في خلقه شئون؛ اليهودي الذي اغتصب أرض فلسطين قبل عدد من السنين، وأخذ الأرض بقوة السلاح، وصلف الإدعاء، وأقام له دولة، اليهودي يهنأ على تراب فلسطين، ويستمتع، وينام آمناً مطمئناً، والفلسطيني صاحب الأرض والبيت ينام في قلق، ويصحو على فزع، الفلسطيني مهاجر، مطارد، مسجون، غريب، ضعيف، فقير، قتيل، ويفتش عن لقمة العيش في أصقاع الأرض، فلا يجدها، ويقترب من التدفئة فيحترق بأطفاله الموقد.
هذه الثنائية في المشهد على أرض فلسطين، والتي تتحدث عن المعاناة والتمتع، عن الجوع والتخمة، عن الفقر والغنى، عن القلق الاطمئنان، عن الاحباط والنشاط، عن الضجر من قلة الحاجات وعن البطر من توفر الاحتياجات، هذه الثنائية على أرض فلسطين، لا يراها العالم، ولا يسمع فيها المجتمع الغربي، ولا يحس فيها أصدقاء الشعب الفلسطيني، ولا يتحرك لها البشر، طالما لا تصرخ البندقية، ولا تتأوه الصواريخ، ولا تبكي القذائف، ولا تنزف الدماء.
وعلى الفلسطيني أن يتوجع بصمت، وأن يتعذب بهدوء، وأن يتلقى الضربات بأنين مكتوم، لأن للفلسطيني قيادة سياسية لا تكترث بحال الناس مهما حل بهم من كوارث سياسية، وكوارث اقتصادية، وحياتية، وطبيعية، لأن للفلسطيني قيادة سياسية لا يشغلها إلا موعد انعقاد الجلسة القادمة للمفاوضات، القيادة لم يعد يهمها المكان الذي تجري فيه المفاوضات، فقد رضيت بالتفاوض في مدينة القدس الموحدة، وتحت الراية الإسرائيلية.