كلما التقيت بجارنا العجوز أستحضر قصته مع حفلة أم كلثوم، كان يحرص على ممارسة طقوسه الخاصة رغم ما يصاحبها من نقد يأخذ طابع السخرية، كان جارنا ينتظر بفارغ الصبر يوم الخميس مطلع كل شهر حيث تحيي أم كلثوم حفلتها، ويتكفل صوت العرب بنقلها على أثيره، وتحضيرات جارنا تبدأ مبكراً في ذلك اليوم حيث ينتقي أفضل ما لديه من ثياب، ويطيل الوقت أمام المرآة وكأنه على موعد مع رؤية عروسه، ويجلس ورفاقه في غرفة "الضيوف" في إنتظار أن تطل عليهم كوكب الشرق بصوتها، يسود الصمت المكان بإستثناء بعض كلمات الاعجاب التي يطلقها الجار بين الفينة والأخرى.
نحن نفعل الشيء ذاته إن تعلق الأمر بلقاء مهم، سواء كان مع مسؤول من اصحاب المكانة المرموقة بغض النظر إن كان أهل لها أم غير ذلك، ونمارس ذات السلوك إن كان اللقاء له علاقة بإختيار شريكة الحياة، ونسعى جاهدين لأن نصل مبكراً، ونطيل الاعتذار وخلق المبررات إن تأخرنا لدقائق معدودة، لم يخطر ببالي أن اعتذر لكتاب لإقتنائي له متأخراً، ولم يتبادر لذهني أن الكتاب القيم مثل شريكة الحياة يلازمك بأفكاره وما يحتويه طيلة حياتك، وبالتالي يفرض عليك نمطاً محدداً وأنت تقلب صفحاته وتغوص في أعماقه، الكتاب بما يحتويه يتطلب طقوساً خاصة، حاله كحال فنجان القهوة يتأثر مذاقه بجملة من العوامل المحيطة به والمرتبطة بصياغة نكهته، لا يكفي أصل البن وفصله وإنما المتمم والمكمل لذلك كيف ومتى وأين نتناوله.
لا أعرف لماذا تذكرت قصة الجار وفنجان القهوة وأنا أقلب رواية الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي "رأيت رام الله"، تملكتني أهمية الاعتذار للكتاب لا الكاتب، فالأخير إلتقيته مراراً عبر دواوينه الشعرية، فيما "رأيت رام الله" كان لقائي الأول به، "رأيت رام الله" التي حاول فيها الشاعر أن يبتعد عن الموسيقى الشعرية ليستسلم إلى متطلبات الرواية إلا أنها خرجت كمعزوفة جمعت بينهما، بالطريقة ذاتها التي جمع في سطورها حكاية الشتات الفلسطيني بين المأساة والملهاة، كم هو مؤلم أن يستوقفك ما ذهب إليه الشاعر بأن على الكاتب أن يكتب بالانجليزية ليقرأه الغرب كي يعرفه العرب، هل كان لزاماً علي أن أعرف أن روايته "رايت رام الله" حاز بها على جائزة نجيب محفوظ للابداع الادبي التي تمنحها الجامعة الأمريكية بالقاهرة كي أقرأها وأطلع على مكنوناتها الثرية، بقدر ما يسرد الشاعر سيرته الشخصية وهو يغادر المكان ليستقر في الزمان، بقدر ما تمثل تأريخاً انسانياً للقضية الفلسطينية، بعيداً عن الخطب العصماء التي تطربنا ولا تطرب سوانا.
رأيت رام الله .. تسرد تفاصيل عقد الزواج الكاثوليكي بين الوطن والغربة، فلا الغربة المفروضة على الكثير من أبناء شعبنا قادرة على سلخ أصحابها عن الوطن، ولا الوطن ذاته بمقدوره أن يتجاهلها، أجمل ما في الرواية أنها تنقل إليك الصورة مجردة، لم يستعن الكاتب بأدوات التجميل التي اعتاد عليها الكثيرفي سرد تاريخهم، لذلك تجبرك الكلمات على العيش بين حروغها والامعان في تفاصيلها، كأنها تدفعك رغماً عن أنفك لإكتشاف عالمك المخفي داخلك، لتعيد بها انسانيتك قبل اي شيء آخر، أن تكون أنساناً شيء وأن يعيش الفلسطيني انسانيته بعيداً عن الوطن شيء آخر، وأن ترى رام الله بعيون المندهش وهي تتحول من قرية إلى مدينة شيء، وأن تراها بذكريات الماضي والحاضر شيء مغاير، وأنا امضي بصفحات الرواية إلى نهايتها وجدت لزاماً علي أن اعتذر لها، أعتذار يليق بقامة ثقافية كبيرة هي أهل لمكانتها ومكانة كاتبها.
[email protected]