كنعان في عيادة الطب النفسي

بقلم: أحمد إبراهيم الحاج

الجزء الثاني من قصة كنعان في عيادة الطبيب

(الجلسة الأولى)

.....................................................

في صالة صغيرة مكتظة بالمراجعين،

وبعد طول الإنتظار،

أفقت من غفوة على حافة كرسي قديم.

إنه صوتٌ نسائي ينادي ويصيح

"هي...هي... أنت .. أنت يا كنعان"

جاء دورك ... هيا الى الطبيب.

هرولت نحو الباب قبل أن يسبقني أحد

ما أكثر من لا يحترمون النظام في بلادنا

وما أكثر المحسوبية والواسطة فيها

فقد جاء الكثير بعدي ودخلوا قبلي.

....................................................

أوقفني نداءٌ من الممرضة:

"عفواً يا إنسان أنت يا .. كنعان،

الدفع قبل الكشف، أعطني خمسين ديناراً"

وليكن معلوماً لديك يا كنعان:

هذا الرسم يغطي عشرين دقيقة فقط،

إن طال وقتك مع الطبيب،

ستدفع ديناراً عن كل دقيقة.

ها قد أدرت ساعة التوقيت.

.................................................

دخلت للطبيب، طرحت عليه السلام كاملاً.

رد بكلمة واحدة دون النظر إليّ وعليكم.

ظل مشغولاً عني خمس دقائق،

يقلب الأوراق تارة،

يرد على الهاتف تارة أخرى،

ويستعرض معلوماتي الشخصية

التي كتبتها الممرضة في الملف.

أهدر من وقتي ما قيمته اثني عشر ديناراً.

......................................................

شكواك يا كنعان،

أسرع وأوجز لا وقت بالمجان.

آه يا دكتور...،

راجعت كل الإخصائيين

في مجالات الطب العضوي، حتى أطباء الأسنان.

أجريت كل التحاليل.

كلهم أجمعوا على لا شيء.

نصحوني أخيراً بعد استنفاذ نقودي،

بمراجعة الطب النفسي.

لم يعجبه ما قلت بخصوص النقود.

أدار وجهه عني جانباً وقال:

هل لديك تأمينٌ طبي يا كنعان؟

لا يا دكتور. .. أستطردت،

أنت تعرف أن كنعان ليس لديه تأمين،

لا طبي ولا غير طبي،

هو دولة في مهب الريح قائمة بذاتها.

كان الله في عونك، إذن لا تضيع الوقت.

أدخل في الموضوع بسرعة.

قل لي ما شكواك؟

......................................................

انا لست أنا الذي أعرفه يا دكتور،

تغيرت وتبدلت.

منذ متى تشعر بهذا الشعور يا كنعان؟

تحديداً منذ حزيران عام 2006.

ماذا تغير فيك يا كنعان؟

كنت برأس واحد، وعقلٍ واحد،

أصبحت برأسين متناطحين،

وعقلين متخاصمين،

كنت عقلاً واحداً موحداً في جسد،

أسير باتجاهٍ واحد،

وأصبحت عقلين متعاكسين بجسد،

أسير باتجاهين متعاكسين.

عقلٌ يدفعني للأمام، وعقلٌ يشدني للخلف.

أخطو خطوة للأمام، وأرجع خطوتين للخلف.

وحساب المحصلة عندك يا دكتور.

.......................................................

كنت قبل حزيران، بثلاثة قلوب، وأصبحت بأربعة.

يقولون أن للبعوضة أربعة قلوب في أجنحتها.

إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة.

الناس تتعذب بقلب واحد يا دكتور،

وأنا أتعذب بأربعة قلوب في جوانحي.

قلبٌ يؤلمني في ضفتي الغربية.

وقلبٌ يوجعني في غزتي الشقية.

قلبٌ هاربٌ مني في شتات العالم.

وقلبٌ يؤرقني داخل الحجاب الحاجز.

بيني وبينه سورٌ عازل.

بإختصار كنت بالأمس كالأسد هصوراً قوياً،

صرت اليوم كالبعوضة في ضعفها الجسدي.

.......................................................

نظر الى الساعة وقال:

طبعاً أخبرتك الممرضة بأن وقتك محدود،

قل لي يا كنعان:

كم تبقى معك من الفلوس؟

تبقى عشرة دنانير ثمن جرة الغاز.

إذن انتهت جلسة اليوم.

إحجز موعداً عند الممرضة لإكمال العلاج.

أحضر معك نقوداً كافية في المرة القادمة.

لم تكتب لي علاجاً يساعدني على النوم يا دكتور.

العلاج يحتاج الى تحاليل لكي يتوافق مع الدم.

كتبت لك تحاليلاً للدم والبول،

وصور أشعة للصدر والعمود الفقري،

وصورة طبقية للدماغ،

وصورة رنين مغناطيسي للكبد والبنكرياس،

ومنظارٌ للمعدة، ومنظارٌ للقولون.

كل هذه التحاليل عملتها ولدي نتائجها يا دكتور.

لا ...لا....لا أثق بها وصارت قديمة.

إذهب الى مختبر الدكتور ...... في العمارة المقابلة.

إنني لا أثق إلاّ بنتائجه.

يبدو أن المختبر لك يا دكتور، الحالة المادية تعبانة،

أكتب لي خصماً معتبراً.

لا يا كنعان ... المختبر ليس لي،

مجرد تشابه أسماء.

خرجت أجرجر قدمي على الأرض منهكاً.

حجزت موعداً لإكمال العلاج.

إلى اللقاء في الجلسة الثانية