رجل مشرد يتخذ قارعة الطريق بيتاً له والرصيف غرفة نومه، ملابسه الرثة أبقاها على جسدة لشهور عدة، وشعره الذي تراكم عليه التراب يؤكد بأن الرجل لم يغتسل منذ أمد، تحولت تسريحة شعره "الراستا"، التي تميز الأفارقة حين يتحول الشعر إلى مجموعة من الضفائر التي تستنزف الكثير من الوقت لتشكيلها، إلى علامة تؤكد على تشرده، مظهره كان كفيلاً لتأفف من يقترب منه، أوعلى أحسن تقدير مدعاة لصدقة مالية الغرض منها إبعاده أكثر منها التقرب إلى الله، محيط حياته في شهوره الأخيرة تمركز حول ميدان العتبة وتمثال ابراهيم باشا وسط القاهرة، كان يطوي جسده النحيف عند حافة الطريق صيفاً وشتاءاً، لم يستدر عطف المارة بقدر ما جلب الاشمئزاز لهم، يبدو أن الانسانية تعيش في سبات عميق، تبلدت معها العقول وتحجرت القلوب، لم يحتمل جسد رجل الراستا موجة الصقيع التي ضربت منطقتنامؤخراً، أو أن برودة الانسانية كانت هي الأكثر وطأة عليه، تجمد الرجل وعلق الكثير من الكلام في جوفه، ومن يكترث بجثة رجل مشرد على الرصيف؟.
مات رجل الراستا وهو في بداية الأربعينات من عمره، نقل جثمانه إلى ثلاجة الموتى دون أوراق ثبوتية، ضفائر شعره وعلامات التشرد على وجهه هي من قادت صديقه لتأكيد هويته، إنه محمد حسين بهنس، الشاب السوداني الذي جمع العديد من المواهب وابدع فيها، حين كتب روايته "راحيل" أجمع النقاد على أنها شهادة ميلاد روائي كبير بقامة الطيب صالح، والأبيات القليلة التي كتبها تحمل ملامح شاعر مرهف، فيما لوحاته التشكيلة الضوئية وجدت مكانها على جدران قصر الأليزيه بفرنسا، هو عازف للموسيقى وملحن ومغني، قلما تجد في هذا العالم رجلاً تجتمع فيه هذه المواهب، وقصة بهنس هي أقرب إلى الأسطورة الأغريقية منها إلى واقع تشهد ابداعاته بحقيقتها، غادر وطنه "السودان" إلى فرنسا كي يقيم معرضاً للوحاته التشكيلية، تزوج من فرنسية، لم تمهله المصائب طويلاً، كانت أولاها بوفاة شقيقة في بريطانيا، تم انفصاله عن زوجته، عاد بعدها إلى السودان كي يجد أمه قد فارقت الحياة أثناء تواجده في فرنسا دون أن يعلم بذلك، أضيفت إلى هذه المحن المتلاحقة محنة الوطن ويبدو أنها كانت الأشد قسوة، آمن بأن السودان يجب ان يبقى موحداً، حاول أن يترجم إبداعاته تحت مشروع "سودان يونت"، إلا أن وطنه لم يعد وطناً واحداً، حمل القليل من ابداعاته والكثير من ارهاصاته النفسية ورحل إلى القاهرة، ضاق عليه الوضع المادي فتحول إلى ضيف ثقيل على أرصفة مركز العاصمة.
لم يدر بخلد المارة أن هذا الشاب المشرد والذين اعتادوا على رؤيته وسط القاهرة امتلك في سنوات عمره القصيرة التي عاشها قدرات ابداعية مميزة، اعترف بها البعيد قبل القريب، قد يكون موته هو المشهد الأخير في الدراما التي عاش تفاصيلها ولم يكتبها.
ألا يتضمن الشأن الفلسطيني الكثير من الموضوعات التي يجب تسليط الضوء عليها؟، هكذا جاء سؤال صديقي الذي يحمل مضامين الاعتراض على مقالي هذا، كأنه أراد أن يقول ما شأننا وهذا المشرد؟، إن أمة تدع البرد يقتل مبدعيها ومثقفيها على قارعة الطريق لا يمكن لها أن تتقدم، وقتل الابداع يكون أكثر ايلاما من الموت ذاته، وهل حالنا يختلف كثيراً عن غيرنا من الناطقين بلغة الضاض؟، ألسنا كغيرنا من محترفي وأد الموهبة؟، الأ يجوز لنا أن نحزن على رجل الراستا أو بالأحرى أن نحزن من أنفسنا؟، ألم يتفوق برد انسانيتنا على برد اليكسا؟، ألم تكشف موجة اليسكا عوراتنا الانسانية قبل أن تطيح بواقعنا؟.
[email protected]