كنعان في عيادة الطب النفسي
أحداث ما قبل الجلسة الثانية
.............................................
حملت نتائج التحاليل وخرجت،
مَثلي كمثل الحمار يحمل أسفاراً.
مغلفات كبيرة ومتوسطةٌ وصغيرة،
مختومة ومغلقة بإحكام.
وقفت على طرف الشارع أنتظر سيارة أجرة.
فجأةً ..وقفت بجانبي سيارة كادت أن تصدمني.
كان صوت المسجل مُنبعثاً منها صاخباً،
"بحبك يا حمار، بحبك يا حمار".
قلت في نفسي "إتق الله في نفسك يا رجل،
يا أخي حِبْ نفسك قبل ما تحب الحمار".
أخرج السائق رأسه من الشباك،
فغر فاهُ على مصراعيه،
صاح بصوت كأنه - بدون تشبيه -
صوت القعقاع في المعركة:
"وين رايح"؟
أحسستُ بريقه المتناثر من شدقيه،
يرشق وجهي كزخ المطر.
كأنه حوت يريد ابتلاعي.
أجبته .. "الى المجمع الطبي".
وبينما نحن نتفاوض،
لمح فتاة قادمة تتبختر على بعد أمتارٍ مني،
قطع الحديث معي،
باعني، وتركني بدون سابق إنذار،
اتجه ناحيتها بسرعة،
أخرج رأسه مستجدياً ركوبها.
أشارت اليه بالرفض.
أراد العودة إليّ.
زفته السيارات القادمة من خلفه بالزوامير.
أوقف سيارته في مكانها معيقاً حركة المرور.
إستل قَنْوةً من السيارة ونزل مُلوحاً بها.
لم يكن الذي خلفه أقل حماقة منه،
إستل من سيارته الخاصة قضيباً من حديد التسليح،
كان جنبهُ مُحدودباً،يبدو أنه يحمل مُسدساً.
حدث عراكٌ بينهما في الشارع،
تجمع الناس بكثافة،
تحول العراك الى طوشة كبيرة،
رأيت الكل يضرب بالكل،
لا يعرف عدوه من صديقه،
سمعت أصوات طلقات نارية،
تدخل الوسطاءُ والمصلحون،
أوقفوا المصارعة الحرة بين الأشقاء.
الحمد لله لا وفيات هذه المرة.
إصابات طفيفة ومتوسطة بين الوسطاء.
اضطر سائق الأجرة الأرعن
أن يمضي هارباً بخفي حنين،
بعد أن أشعل نيران معركة أهلية بدون سبب.
ثم قدمت سيارات الشرطة والإسعاف،
بزواميرها المعهودة.
ولكن بعد فوات الأوان.
..............................................................
بعد فترة وجيزة،
جاءت سيارة فارهة مُظللة،
كانت تسير بين السيارات في الشارع
كأنها الطاووس بين الدجاج،
ما أكثر طرازها في بلادنا الفقيرة.
أقلَت الفتاة المتباهية المتبرجة،
مضت مسرعة تنهب الأرض.
وأنا أنتظر على أحر من الجمر،
تحت صفيحٍ ساخن يغلي من شمس تموز
وقفتْ بجانبي سيارات أجرة ومضت رافضة،
تذرع سائقوها بشدة الزحام في مكان العيادة.
...............................................................
وبعد طول انتظارٍ تحت شمس حمئة حارقة.
رزقني الله بإبن حلال،
كان يسوق سيارةً قديمة مُهلهلة.
قال لي بصراحة تنمُ عن طيبة:
السيارة غير مكيفة يا خالي.
مسحت العرق المُتصبب على جبيني بكلتا يدي.
قلت له "لا بأس، أريد اللحاق بالموعد،
أدِرْ العداد، توكلنا على الله".
نظرت الى وجهه متأملاً،
كأنني أنظر الى غلاف قصة "البؤساء".
أو إلى لوحة تعبر عن الشقاء الصامت،
سألته: خير يا إبن العم، مالك مهموم؟
خليها على الله يا قرابة،
أعمل سائقاً على باصٍ مدرسة خاصة،
تخرجت إبنتي هذا العام من الثانوية العامة،
حصلت على معدل تسعة وتسعين وعُشرين،
لم أجد جامعة حكومية تقبلها في أي تخصص،
قلت له "معدلها يؤهلها لدراسة الطب بالمجان".
قال: "نحن فلسطينيون من حملة الوثيقة،
ليس لنا نصيبٌ في الجامعات الحكومية ولا بالإبتعاث".
قلت له: " لا بأس ...،
إنهم يوهموننا بمجانية التعليم،
إن الجامعات الحكومية في بلادنا
أغلى من الجامعات الخاصة".
ثلثها جامعة حكومية
للمُبتعثين بالمَكرمات والنسب والواسطة
وثلثيْها جامعة خاصة
سعر الساعة المعتمدة فيها أغلى من سعر الذهب.
لا تأسف، ولا يغرنك مستواها العلمي،
انخفض تصنيفها انخفاضاً حاداً.
تنهّد وقال:
أمنيتها أن تدرس الهندسة المعمارية،
اشتريت هذه السيارة المتواضعة،
أعمل عليها أيام العطل وبعد الدوام،
علني أحقق أمنيتهافي جامعة خاصة".
ثم حدثته عن المعركة الأهلية.
قال: لا عليك، عادي...،
هذه مناظرٌ وأحداثٌ مألوفة في بلادنا،
تجدها على أشد من ذلك في كل شارع وزقاق،
من كل مدينة عربية.
وامتدت الى الجامعات العربية،
ألم تسمع بمصطلح "العنف الجامعي"؟
وكذلك العنف البرلماني،
إنهم يتقاتلون في البرلمانات بأسلحة ثقيلة.
يا ريت ظلت على المسدسات.
لا تستغرب، إنه العنف المجتمعي.
الذي ينم عن أمراض إجتماعية ونفسية.
بسبب الفقر والجهل وكبت الحريات.
إذا رحل الفقر الى مكان،
قال له الكفر: خذني معك.
قلت له: والله كلامك صحيح،
تحصل في مجتمعاتنا العربية جرائم يشيب لها الرأس،
يقتل الأخ أخاه، ويُمثل بجثته.
حتى سمعنا بالإبن يقتل والديه!
وإعلامنا العربي يبثها على العام والخاص.
......
وصلنا مكان العيادة،نقدته عشرة دنانير،
كان في نيتي أن لا أستردَّ منه باقياً،
أعادها اليّ قائلاً "ما في فكة"،
إن تلاقينا مرة أخرى تعطيني الأجرة،
وإن لم نلتقِ، سامحك الله دنيا وآخرة.
قلت له بجدية وإصرار:
" يا إبن الحلال،إعتبر الباقي هديةً لإبنتك المتفوقة".
فتحت باب السيارة وخرجت.
لحقني وأصرّ على إعادة العشرة دنانير.
وأقسم بالله ألاّ يأخذها، وقال:
هنالك الكثير من هو أحق مني بالصدقة".
إلى اللقاء في تكملة أحداث ما قبل الجلسة الثانية.
بقلم أحمد ابراهيم الحاج
25/12/2013