خاضت الحركة الوطنيَّة الفلسطينيَّة معارك سياسيَّة وفكرية على صعيد تحديد مساحة التحرّك سياسيًّا وفكريًا على امتدادها النضالي الفعلي منذ انطلاقتها وما قبل، وهذه المعارك اتخذت الطابع الجدلي الذي لا زلنا نخوض غمار نقده حتى راهن اللّحظة بين مؤيد ومعارض في ظّل متناقضات وطنيَّة – عربيَّة تتجاذبها مساحات واسعة من اللا توافق على رؤية قوميَّة أو إسلاميَّة أو استقلالية الحالة النضالية المجتمعيَّة والسياسيَّة والأيديولوجيَّة، ضمن ما يسمى اللا توافق الذاتيِّ في تحديد نوعية وماهية الحالة الكمية الّتي يريدها العرب عامة. ومن ضمن هذه الحالة هي الحالة الفلسطينيَّة الّتي بحثت عميقًا في رزنامتها النضالية، بين متجهين الأوّل: العمل ضمن الفعل العميق والواسع عربيًّا كامتداد لانتمائها الأوسع والأرحب. والثانيِّ: العمل ضمن الانحصار الجيو سياسيِّ في إطار الدولة الصغرى المحددة سياحيًّا وفق بروتوكولات ( سايكس – بيكو)، فاحتلت هذه المعضلة فعلًا مؤثرًا في البحث والمناقشات والتداول، في أروقة الأيديولوجيَّا النضاليَّة الفلسطينيَّة، وخاصة حركة القوميّين العرب، والّتي ما فتأت وأنّ حسمها الراحل المفكر د. جورج حبش عندما مركس الأيديولوجيَّا التحررية ضمن خصخصة الحالة الفلسطينيَّة، وكذلك ضمن إطار الجبهة الشعبيَّة لتحرير فلسطين، والّتي من خلالهما استطاع أنّ يضع حدّ للتناقضات في الساحتين العربيَّة والفلسطينيَّة، ويحدّد المعركة الزمانيَّة والمكانيَّة، مدعمة بالأيديولوجيا. تاركًا باب الاجتهاد على مصراعيه في تحديد المفهوم العملي للخصخصة الفكرية الّتي أنتجها في قالب العمل الثوريِّ النضاليِّ المتقولب من حركة القوميّين العرب.
في ظّل هذه التجربة المعمقة سياسيًّا وأيديولوجيَّا الّتي مضى عليها أكثر من نصف قرن تقريبًا، تعود الحالة الهيلاميَّة مرة أخرى للساحة الفلسطينيًّة، ولكن في حدود أوسع وأشمل، أيّ ضمن البُعد الإسلاميِّ الأكثر اتساعًا وعمقًا من البُعد العربيِّ – سالف الذكر- وهو القديم – الجديد، في ولاء وانتماء حركة حماس للإخوان المسلمين التنظيم العالميِّ، الذي لا ينفرد بساحة دون أخرى، ولا ينفصل في حدود ضيقة، أو يأخذ تمايز وتباعد الفهم والوعيِّ العربيِّ والإسلاميِّ المتنوع ضمن أجندة التقدم والتخلف في رؤية الحالة الشمولية للقضايا الرئيسيَّة في عالمنا الإسلاميِّ. ومع إصدار مصر والسعودية قرار باعتبار حركة الأخوان المسلمين حركة إرهابيَّة، وهو سبق لم يحدث في عالمنا المزودج إسلاميَّا وعربيَّا من قبل، تعود جدلية متعلقة بحركة حماس الفلسطينيَّة الّتي تعتبر أحد اذرع الأخوان المسلمين في فلسطين، بل ذراعها القوي على المستوى الإسلاميِّ والعربيِّ، بما أنّ حركة حماس هي الحركة أو الذراع الأوّل من أذرعة الأخوان الذي استطاع أنّ يقفز للسلطة بعد نضال طويل ومرير مع الأنظمة، بالرغم من نجاح التجربة الإسلاميَّة التركيَّة من قبل، إلَّا أنّ هذه التجربة لا تضاهي الأهمية والزخم الذي أحدثته حركة حماس في عالمنا العربيِّ عندما قفزت لرأس النّظام الفلسطينيِّ، وخاصة في فلسطين الساحة الأكثر أهمية وتأثير في واقع يعتبر فلسطين قضيته المركزية وأساس نضالاته.
وعليه فمنذ أنّ اتخذت مصر والسعودية هذا القرار، توالد أسئلة عديدة وجدلية متعددة في الساحة الفلسطينيَّة، عن دور حماس القادم وإستراتيجيتها القادمة في ظّل هذا الواقع المستجد، خاصة وأنّ الدولتين آنفتي الذكر لهما تأثيرهما الكبير على المسألة الفلسطينيَّة، من حيث وزنهما السياسيِّ، وتقاربهما مع القضيَّة الفلسطينيَّة، وكلاهما يمثل راعي لها.
وخرجت أصوات تنادي بانسلاخ حركة حماس عن جماعة الإخوان المسلمين، وهناك اصوات أخرى طالبت الحركة بمراجعة إستراتيجيتها وتكتيكها حوّل العديد من مواقفها المتعلقة بالبُعد العربيِّ والإسلاميِّ.
بوجهة نظري أعتبر من ينادي بسلخ الحركة( حماس) عن جماعة الأخوان المسلمين ذهب بعيدًا في إطار اليوتوبيا( الطوباوية) السياسيَّة والأيديولوجيَّة ولم يدرك أنّه يتحدث عن جماعة يحكمها ميثاق موحد، أشبه ما يكون لولاية الفقيه لدى الأخوة الشيعة، أيّ أنّ الانتماء للميثاق والجماعة يُغلب على الانتماء للخصخصة المنحصرة في إطار معين، وعليه فهذا الخيار ساقط فكريًا وسياسيًّا، ومن المستبعد إطلاقًا أنّ تبني عليه حركة حماس إستراتيجيتها المستقبلية، وهو ما أكده عضو مكتبها السياسيِّ موسى أبو مرزوق بأخر تصريحاته، بأنّهم لن يتخلوا عن الجماعة، أو يعلنوا انسلاخهم عنها بما أنّها هي الحاضنة العالميَّة لهم، وهي الرحم الذي انطلقوا منه وفق مبادئ مؤسسها حسن البنا، أما فيما يتعلق بالطرح الآخر المناداة بإعادة تقييم للمواقف التكتيكيَّة للحركة، فهذا يمكن له من خلال آليتين:
الأوّل: أنّ تعيد حركة حماس بمراجعة مواقفها السياسيَّة ضمن محورين، المحور الأوّل أن تأخذ بعين الاعتبار أنّها حركة حاكمة تسيطر على النّظام السياسيِّ الفلسطينيِّ أيّ أنّها لم تعد حركة كفاحية نضالية تعبّر عن ذاتها، بل تعبّر عن شعب كامل له ما له وعليه ما عليه، وأنّ أيّ موقف لها يخرج من حدود الحركة إلى حدود الشعب والقضيَّة، وهو ما يتطلب تنازلات كبيرة على مستوى التبعيَّة السياسيَّة لجماعة الإخوان المسلمين، وخاصة أنّ الاحتكاك المباشر للفعل السياسيِّ يرتبط مع مصر، والسعودية وكلاهما له تأثيره على القضيَّة الفلسطينيَّة، وهنا عليها تغليب المصلحة الوطنيَّة على المصلحة الحركيَّة، وهو ما استبعده أيضًا في المرحلة الحالية بما أنّ حركة حماس أصبحت أكثر ورطة في القضايا السورية واللبنانية، والإيرانيَّة، ولم تعد تنظر للمسألة ضمن دوائر المساحة الوطنيَّة، بل ضمن دوائر جماعة الإخوان، وهو ما كلفها خسارة الساحة السورية، وتراجع الدعم من إيران وحزب الله. أما المحور الآخر فهو كيفية انتهاج نهج إقناعي للجيل التقليدي في حركة حماس الذي ينتمي للجماعة أكثر من انتماؤه للحركة، وكيفية انتهاج منطق إقناعي لدى قاعدتها الحركية في فلسطين وخارج فلسطين، وكذلك في ساحاتها بالأردن ولبنان، والسودان، وتركيا، واليمن ...إلخ.
الثانيِّ: أنّ تُعيد الحركة النظر في قيادتها للسلطة الوطنية الفلسطينيَّة في غزة على وجه التحديد، من خلال أنّ تتوجه للمصالحة الفلسطينيَّة – الفلسطينيَّة، وتتنازل عن بعض القضايا الخلافية، ورمي الكرة في ملعب الرئيس الفلسطينيِّ محمود عباس، ونقل المعركة من مساحة الحركة، إلى مساحة السلطة بمسماها وعنوانها الرئيسي الممثل بالرئيس محمود عباس، وعليه فإن الحركة تكون قد تخلصت من أزمتين، أولهما: الأزمة الداخليَّة الّتي تعصف بها من سيطرتها على غزة، وسجنها للشعب الفلسطينيِّ في غزة، وتضييق الخناق عليه من البر والبحر والجو، وثانيهما: تكون الحركة قد انصهرت في بوتقة السلطة من خلال دورها الحاكم، وحافظت على خصوصيتها الحركية خارج السلطة.
أما منطق نيل الحسنيّين السلطة والحكم، والخصوصية الحركية الحزبية فهو خيار أصبح أكثر صعوبة في ظّل التطورات السريعة الّتي تعصف بالمشروع الإخواني عامة في منطقتنا العربيَّة بعد سقوط حكم الأخوان في مصر، وفشل الأخوان في موريتانيا بالانتخابات الأخيرة، واهتزاز عرش الأخوان في تونس، واقتراب الحسم في سوريا لصالح النّظام، وتخلي الولايات المتحدة الأمريكيَّة عن مشروع الأخوان الذي تبنته خفيةً بعد ما يسمى الرّبيع العربيِّ.
د. سامي الأخرس
29/12/2013
[email protected]