كنعان في عيادة الطب النفسي

بقلم: أحمد إبراهيم الحاج

كنعان في عيادة الطب النفسي

الجزء الرابع

تكملة أحداث ما قبل الجلسة الثانية

......................................................

وصلت العيادة مُبللاً بمياه العرق المالحة،

كأنني خارجٌ بملابسي من البحر الميت.

نظرتُ يساراً ويميناً مستطلعاً،

أتعسعسُ الخطى كي لا يراني أحد.

جلست على الكرسي في صالة الإنتظار،

كعادتي تنكرت، غطيت وجهي بالكوفية،

وتظاهرت بالنوم.

كنت أختلس النظر من تحت الكوفية،

أراقب الداخل والخارج للعيادة.

خرج إمام المسجد من غرفة الطبيب،

الحمد لله سليمة .... لم يتعرف عليّ.

تذكرت خطبته في الأسبوع الماضي،

لقد كان موضوعها:

"الإيمان بالله يقي من الأمراض النفسية".

كانت الخطبة الوحيدة التي لامست حاجات الناس

منذ توليه منبر الخطابة.

كنت مشدوداً الى خطبته بكل حواسي،

علني أجد فيها علاجاً لمرضي،

نظرت حولي وخلفي وأمامي،

رأيت الجميع مشدوداً ومصغياً مثلي،

اليوم وبعد أن رأيته في العيادة النفسية،

فهمت أن الجميع يعاني مثله ومثلي،

عدت الى عقلي وقلت في نفسي:

الإيمان ما وقر في القلب وصدَّقه العمل،

نحن أمةٌ ينقصها العلم والعمل والضمير الحي،

"إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء".

"وقل اعملوا فسيرى الله عملكم".

"إن الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم"

وهل سيحمينا إيماننا المبتور المنقوص.

في غيابٍ لعقولنا وضمائرنا وحضورٍ لعواطفنا،

من هجمة الأمراض النفسية؟!".

.....................................................

نادت الممرضة على إسم جارنا،لعلكم تذكرونه،

إنه "مدير المدرسة"" أبو محمد".

كررت النداء ثلاث مرات، لا مجيب.

يبدو أنه صرف النظر عن مراجعة الطبيب،

كي لا أكتشف أمره،

لم يَدْرِ الحزين أن حالي من حاله،

لقد صَدَّقني الأهبل عندما قلت له:

"أريد تسويق علاج جديد للطبيب"

"إليّ بدري بدري، وإليّ ما بدري بقول كف عدس"

مسكين أبو محمد،كان وجهه مكتئباً!

إذا كان هذا هو حاله،

فما هو حال المدرسين والطلبة؟!

حقاً لقد شعرت بالندم،

لأنني حَرمتُهُ من زيارة الطبيب.

ربما كان أحوج مني بالزيارة.

لعله سيُخفِّفُ من تقطيبة جبينه

أمام المدرسين والطلبة.

ويشيع فيهم جواً من التفاؤل والأمل.

فيكون النفع للمجموع بدلاً من النفع للفرد.

......................................................

جاء دوري.

استغلت الممرضة فرصة نومي،

لم تطلق عليّ النداء.

أدْخلتْ مريضة كانت قادمة للتو.

قمت على استحياءٍ متنكراً أطالب بحقي،

لم تعرنِ المريضة أي اهتمام،

أخذت دوري سطواً وظلماً صارخاً

دون استئذانٍ أو وازعٍ من ضمير.

نظرت إلى الممرضة لتدلي بشهادتها في القضية.

لعلها تنصفني وتنتصر لحقي المغصوب.

ترددت....حبست الكلام في حنجرتها،

إصفرَّ وجهها خوفاً، ثم احمر خجلاً وحرجاً.

امتنعت عن الإدلاء بشهادة الحق.

"مسكينة، ربما هي مغلوبةٌ على أمرها،

أو أنها متآمرة عليّ ستقبض الثمن.

ضاع حقي لتظاهري بالنوم،

ومغايرتي لحقيقة أمري

وتنكري لذاتي، وانقسامي على نفسي.

واعتمادي على شهادة الممرضة.

لذلك خسرت القضية وأنا على حق.

وكسبها الخصم وهو على باطل.

سأخبركم بقية الأسباب:

كان يبدو على المريضة من هندامها،

وروائح العطر الزكية المنبعثة منها،

والجواهر الملتفة حول عنقها -كحبل المشنقة -

وأساور الحلي التي تطوق يديها –كالكلبشات -

واستقبال الممرضة لها بحفاوة تعتريها رهبة،

"أنها زوجة رجلٍ متنفذٍ ومهم،بدون شك سيكون غنياً".

أو أنها امرأة متنفذة بسوط جمالها الذي لا يُقاوم.

لِمً لا... لقد مضى زمن الأنبياء،

نعم لقد خسرتُ القضية والحق معي.

"إذا كان غريمك القاضي لمين تشتكي؟!".

.....

فهمت اللعبة بعد فوات الأوان.

خرجت عن صمتي وقلة حيلتي وتنكري لذاتي

نظرت حولي ولم أجد أحداً من معارفنا.

ما زلت متردداً في الإعتراف بواقعي.

أشحت اللثام عن وجهي وإنتفضت.

وبعد مقاومةٍ ومرافعة ومشادة كلامية وعراك،

دفعتُ رسوم الكشف ودخلت.

بعد أن سرق الآخرون دوري عدة مرات،

شعرت قليلاً بنشوة المنتصر.

حتى وإن كان نصراً بطعم الهزيمة،

لأنه جاء منقوصاً في غير موعده.

ولأنه لم يحقق هدفاً استراتيجياً واحداً.

أيقنت متأخراً أنه في عالم الأمس واليوم والغد،

"إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب".

ولا عاشت ذئابٌ بدون أنياب.

كما فهمت واستوعبت أنه:

"لا يحك جلدك غير ظفرك"

ولن يحرث أرضك غير عجلك.

الى اللقاء في تفاصيل الجلسة الثانية