أتشرف بادء ذي بدء ... بالانحناء إجلالا وإكبارا لكل شهيد سقط على مذبح تحرير فلسطين، هذا كما وأقف احتراما وتقديرا لكل أسرانا البواسل الذين خاضوا معارك الصمود والتصدي ولاقوا صنوف العذاب والتنكيل في سجون ومعتقلات الاحتلال الصهيوني البغيض، فسجلوا سفرا خالدا سيذكره التاريخ إلى يوم الدين.
"المفاوضات التي ينقسم الفلسطينيون حول جدواها لا تزال تراوح مكانها بسبب استمرار الاستيطان الذي يواصل قضم المزيد من الاراضي الفلسطينية، غير ان الفضيلة الوحيدة التي حققتها هذه المفاوضات حتى اليوم من وجهة نظر البعض تمثلت في اطلاق سراح عشرات الاسرى ممن امضوا سنوات طويلة في سجون الاحتلال."... انتهى الاقتباس، ذاك لعمري إقتباس نصي لفقرة وردت في تقرير خبري حمل عنوانا رئيسيا (حصاد 2013 فلسطينيا : كل شيء ناقص ووحده الامل ينمو ويزدهر) كانت صحيفة القدس الغراء قد نشرته بتاريخ 28/12/2013 بمناسبة انتهاء العام الميلادي 2013.
ما أن قرأت نص التقرير الخبري المذكور في صحيفة القدس أعلاه حتى أحسست بأن خافقي يكاد يقفز من بين أضلعي فيما رحت أستذكر بألم كبير مشاهد فلسطينية طيلة عقدين من الزمن امتدت بين عام 1993 (حين تم توقيع اتفاقية أوسلو وولادة السلطة الوطنية الفلسطينية) وبين تاريخ نشر التقرير المنوه عنه آنفا، ورحت أسائل نفسي: سبحان الله العزيز القدير، أيُعـْـقـَل أن يستمر الجدل محتدما هكذا حيال جدوى مفاوضات "عبثية" قد جرت بين قيادة السلطة الفلسطينية وبين والكيان الصهيوني الغاصب!؟، لكن أمرا قفز ببالي على حين غـِرّة عمل على تهدئة روعي، فرغم قساوة الاحتلال وتداعيات ما أفرزته أوسلو من تخبط سياسي امتد لعقدين من الزمن رافقتها دسائس ومؤامرات برعاية أمريكية وتواطؤ عربي مهين حيكت بالخفاء فتسببت بتشرذم المشهد الفلسطيني، إلا إن شعبنا الفلسطيني الصابر المحتسب مازال يرفض بإصرار وتحد رائعين ما يجري من حوله، لذا فليس بالأمر الغريب أن لا يذكر في التقرير الخبري أي إنجازات تحسب لتلك المفاوضات سوى حسنة يتيمة وحيدة تمثلت بإطلاق عشرات الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال طيلة تلك السنوات العجاف، لهذا - وانطلاقا مما جاء بعنوان التقرير ونص الفقرة تلك – فإنني أطرح بعضا من فيض غيض تساؤلات لا أستبعد بالمطلق أن يشاركني فيها السواد الأعظم من المشككين بجدوى تلك المفاوضات:
أولاً... أي "أمل ينمو ويزدهر" ذاك الذي يمكن أن يلحظه الفلسطينيون في مشهدهم السياسي في ظل المعطيات التالية:
- مفاوضات عبثية عقيمة طال أمدها كان قد رافقها وسيرافقها مستقبلا قضم ممنهج للأرض الفلسطينية واتساع استيطان في قرى ومدن الضفة!؟.
- كذب مستمر وتدليس ومراوغة وخداع أبدي وكيل بمكيالين أبدته الولايات المتحدة الأمريكية!؟.
- غياب وعي وإرادة عربية مسؤولة داعمة للشأن الفلسطيني!؟.
- استمرار واتساع التشرذم الرسمي الفلسطيني رافقه فقدان البوصلة الوطنية الفلسطينية!؟.
ثانيا ... أي فضيلة تلك التي تحققت - من وجهة نظر قلة من الفلسطينيين كما أشار التقرير – من خلال إطلاق سراح أسرى فلسطينيين أبطال يكون ثمنه استمرار المفاوضات، وثبات نهج الصهاينة بقضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، وترسيخ أقدام الاحتلال في أرض مدن الضفة وقراها "حدود دولة فلسطين الموعودة!!"!؟، ثم ... أي تبرير أجوف صُنـِّـف من باب الفضيلة - وبعد عقدين من زمن بدء انطلاق قطار التسوية - قد تمثل بإطلاق سراح أسرانا الأبطال، في وقت يعلم أسرانا الأبطال قبلنا جميعا بأن سقوط الشهداء والجرحى على مذبح الحرية والكرامة من جانب، ووقوع الأسرى تحت قبضة الاحتلال الغاشم من جانب آخر هو النتيجة الطبيعية المشرفة لمناهضة ومقاومة أي احتلال غاشم!؟، ثم ... أيرتضي أولئك الأسرى الأبطال الصامدون أن يكون ثمن حريتهم وإطلاق سراحهم استمرار الاحتلال وتمدده في أرضهم المحتلة وترسيخ أقدامه في مدنهم وقراهم!؟.
لا ... وألف ألف لا، فذاك لعمري ثمن باهض لا يرتضيه أسرانا ثمنا لحريتهم، وهو أمر سيؤرق منامهم ولاريب وسيقضّ لهم مضاجعهم، إدراكا ويقينا من أسرانا بأن شعوب الأرض المحتلة الأخرى كانت قد مارست حقها الشرعي والوطني بالنضال الدؤوب من أجل طرد الاحتلال، ولن يكون في حسبان أسرانا أن يكون ثمن فك ذاك الأسر والصبر والمجالدة والنضال الطويل والجهاد بقاء الاحتلال وتوسعه وترسيخ أقدامه على الأرض الفلسطينية المقدسة، وليس بجهاد وصبر ومجالدة نيلسون مانديلا عنهم وعنا ببعيد!!.
ثالثا... أمازال أولو الشأن والقرار الفلسطيني يعتقدون - من منطلق مبدأ "حُسْن النية" ليس غير- بأن ثمة هناك أملا يرتجى تحقيقه في آخر مطاف عملية السلام المزعومة مع الكيان الصهيوني وتحت الرعاية المباشرة الأمريكية!؟، وإجابة عن تساؤلي الأخير، أقول بأن أولي الشأن والقرار الفلسطيني لا يملكون ورب الكعبة جوابا مقنعا لتساؤلي ذاك، فهم يدورون في حلقة مفرغة فيما يستثمر العدو الصهيوني عامل الزمن المهدور في ترسيخ أقدامه، وبذا فهم يراهنون بمصير شعب فلسطين ليس إلا!!!، ومصداق قناعتي تلك تتمثل بما يختزنه تاريخ التسوية من شواهد مؤلمة جلبت لنا الويل والثبور وتقهقرا مستمرا للقضية الفلسطينية أذكر منها أربعة على سبيل المثال لا الحصر، وهي لعمري غيض من فيض ما يختزنه تاريخنا التفاوضي المؤلم والمخزي:
• من منا لا يذكر اتّفاقية أوسلو عام ١٩٩٣، وكيف أنها نصت على إقامة سلطة حكومة ذاتيّة انتقالية فلسطينية (أصبحت تعرف فيما بعد بالسلطة الوطنية الفلسطينية)، ومجلس تشريعي منتخب للشعب الفلسطيني، في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، لفترة انتقالية وإتمامها في أقرب وقت ممكن، بما لا يتعدّى بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية، وأن مفاوضات ستغطي بقية القضايا المتبقية، بما فيها القدس، اللاجئين، المستوطنات، الترتيبات الأمنيّة، الحدود، العلاقات والتعاون مع جيران آخرين!!.
فأين بالله عليكم نحن وما اتفق عليه آنذاك!؟، وما الذي تحقق منها حتى الآن!؟، سأترك الإجابة عنها لكم، فابحثوا في بطون الكتب أيها الأحبة الكرام.
• ثم توالت السنين، فإذا بمبادرة للسلام في الشرق الأوسط تحت عنوان "خارطة الطريق" تطرح عام 2002 قيل أن الهدف منها كان (بـدء!!) محادثات للتوصّل إلى حلّ نهائي لتسوية سلميّة، من خلال إقامة دولة فلسطينية بحلول العام 2005!!.
فأين بالله عليكم خارطة الطريق تلك!؟، وما الذي أنجز منها!؟، ولِمَ لم نعد نسمع عنها!؟، سأترك الإجابة عنها لكم أيضا، فابحثوا في بطون البحوث والدراسات وأرشيف نتائج المفاوضات أيها الأحبة الكرام.
• وتتوالى السنوات أيضا، ويستمر نهج الاستيطان الصهيوني وتهويد قدسنا الشريف، ليخرج علينا الرئيس الأمريكي أوباما ليعلن في قمة واشنطن في أيلول / سبتمبر من عام 2010 عن استئناف جديد للمفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وإن غرض المفاوضات المباشرة حلّ جميع قضايا الوضع النهائي، والوصول إلى تسوية تنهي الاحتلال الذي بدأ عام ١٩٦٧، وظهور دولتين فلسطينية وإسرائيلية تعيشان جنباً إلى جنب بسلام وأمن، وأوقفت قيادة السلطة الفلسطينية المفاوضات بعد اتضاح زيف وكذب الكيان الصهيوني وعدم مصداقية توجهاته للسلام في الشرق الأوسط، واستمرار نهجه في قضمه للأراضي الفلسطينية!!.
• ثم يعلن عن انطلاق المفاوضات من جديد في عام 2013، ويخرج إلينا الرئيس الفلسطيني مصرحاً عن تمسكه بها حتى آخر جولتها بعد تسعة أشهر، وأنه لن يتراجع عنها مهما حصل على الأرض، برغم أنباء تواترت عن استقالة الوفد الفلسطيني المفاوض!!، وما هي إلا أسابيع معدودة حتى تناقلت الأنباء بتاريخ 6/12/2013 تصريحات كبير المفاوضين الفلسطينيين – صاحب كتاب الحياة مفاوضات – الدكتور صائب عريقات معلنا بأن المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية تمر بوضع "معقد وصعب جدا" نتيجة استمرار سياسة الاستيطان في الضفة الغربية، وبأننا قد "أصبحنا أمام عمليات استيطان وليس عملية سلام" على حد وصفه وتعبيره!!، ورغم ذلك كله فإنه قد أعلن "بأن الرئيس أبا مازن قد أكد لوزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية التزامه بالسلام والمفاوضات والتزامنا بإقامة دولة على حدود العام 1967، وحل كافة قضايا الحل النهائي استنادا لقرارات الشرعية الدولية"!!، وما هي إلا أيام معدودة تلت تلك التصريحات العجيبة الغريبة، حتى نشرت وكالات الأنباء العالمية والعربية والفلسطينية نقلا عن صحيفة معاريف خبر قيام رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو بالإيعاز الى الوزارات الحكومية ذات الصلة لاعداد المناقصات لبناء 1400 وحدة استيطانية في القدس الشرقية ومستوطنات الضفة الغربية، وطرحها للسوق، وذلك بعد الإفراج عن الدفعة الثالثة من أسرى ما قبل أوسلو!!.
مسك الختام ... تساؤل طالما طرحناه عبر مقالاتنا: متى ستدرك القيادة الفلسطينية الموقرة بأن التعنت الصهيوني لم يكن وليد يومه!؟، ومتى ستعي حقيقة لم تكن مستترة غير ظاهرة للعيان مفادها أن الاستيطان مبدأ ثابت راسخ في العقلية الصهيونية منذ وطأت أقدام أسلاف النتن ياهو أرض فلسطين طامعين غاصبين سفاكين للدم الفلسطيني الطاهر، ولا أرى بداً من تكرار صرخات التحذير والتنبيه التي لطالما صرختها عبر مقالاتي المنشورة، يقينا وإيمانا بها، أن لا سلام يرتجى مع من جاء ليسرق ويشَرِّد ويستوطن ويهوِّد، وأنه لا سلام مع الضعفاء والمشرذمين المشتتين، وأن السعي الحثيث خلف تسوية مهلهلة انطلق قطارها من أوسلو والجلوس إلى مائدة مفاوضات مع الجانب الصهيوني ما كان إلا عبثاً وضحكاً على الذقون، وأنها كانت تعطيلاً لجهد واقتدار وفعل أبناء فلسطين الغيارى الساعين لنيل حقوقهم السليبة، وأنها كانت بحق ملهاة قد جرنا إليها العدو الصهيوني بخبث ومكر وبتدليس غربي وتواطؤ وتخاذل أنظمة عربية مهين بقصد تمييع القضية وزرع حالة من اليأس والقنوط وترسيخ أقدام الصهاينة على أرض فلسطين بعد قضم تدريجي لها واستيطان متواصل ومستمر، يتزامن وتهويد مقدساتنا وزرع الفتنة بين نهجين فلسطينيين، أحدهما مع التسوية والأخر رافض لها!!.
وللحديث بقية ... مادام في العمر بقية أولاً، وستستمر "مساميرنا" مادام نهج التسوية المهلهلة باقيا!!.