تسعى الدول في نسج علاقاتها الخارجية إلى حماية وتعظيم مصالحها، مستندة بذلك إلى قدرتها على الاستخدام الأمثل لإمكاناتها. وعادة ما تأخذ مؤسسات صنع القرار عند رسم السياسة الخارجية جميع العوامل المؤثرة داخلياً وخارجياً، بما يضمن نجاح هذه السياسة في تحقيق المصالح عند ممارستها واقعياً. وهذا بدوره يجعلنا لا نغفل أن في كثير من الأحيان تختلف السياسة المعلنة للدول عما تمارسه فعلياً على أرض الواقع، عليه من المهم التفريق بين ما تعلنه الدول من أهداف لسياساتها الخارجية وبين سلوكها وممارساتها على الصعيد الخارجي، فتناقضات الواقع وتزاحم المصالح بين الدول تجعلها في عملية ترجيح بين المعلن والواقع.
من هذا المنطلق يُفهم وفي أحيان كثيرة طبيعة اختلاف التزام إيران بالأهداف المعلنة في الدستور عنه في ممارساتها الواقعية، وفقاً لما تمليه العوامل المؤثرة في سياستها داخلياً وخارجياً. بل أن إيران تعمد إلى تطويع أهدافها المعلنة والمستمدة من مبادئ وأسس الثورة، بما يمكنها من مراعاة متطلبات الواقع دون الابتعاد عن قيمها الثورية، ولا مكاسبها التي حققتها، أو تغليب مصالحها القومية على ما سواها.
فبالرغم من غلبة الطابع الثوري في المرحلة الأولى من عمر الجمهورية الإيرانية التي عرفت "بإيران الثورة 1979-1989"، ووضع النظام الإيراني نظرية الاستضعاف أساساً للسياسة الخارجية، وهي التي تعتمد مبدأ التولي والتبري الإسلامي أساساً لتقسيم العالم إلى مستكبر ومستضعف وبالتالي مناصبة دول الاستكبار العداء وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنه تغليباً للمصلحة قام النظام الإيراني فترة الحرب الإيرانية-العراقية بالحصول على شحنات سلاح من الجانب الأمريكي، في مقابل مساعدة إيران في إطلاق سراح الرهائن الغربيين في بيروت. كما كان لإيران ولسنوات طويلة علاقات حسنة مع الاتحاد السوفيتي وأبرمت معه المعاهدات، في حين كان من المفترض أن يتم الابتعاد عنه لأنه حسب هذا المبدأ يعد النظام السوفيتي كافراً لا يجوز التعامل معه، وانطبق الأمر ذاته على دول أوربا الشرقية وكوبا ونيكاراجوا.
وفي مرحلة "إيران الدولة 1989-2007"، والتي بدأت مع وصول رفسنجاني إلى السلطة، ومع الحاجة لإعادة إعمار ما دمرته حرب الثماني سنوات مع العراق، أولت إيران اهتمامها بسياسة بناء الثقة المتبادلة وإزالة سوء التفاهم والقضاء على التهديدات السياسية والعسكرية والإقلال من الأزمات وإقامة علاقات مباشرة مع الدول الأخرى بما فيها الغربية، حتى أنها سمحت في حينه إلى تسلل الشركات الاستثمارية الأمريكية إلى إيران، ومن أمثلة ذلك افتتاح شركة كوكا كولا الأمريكية فرعاً لها في طهران.
وفي فترة رئاسة خاتمي والتي عرفت بمرحلة "إزالة التوتر في سياسة إيران الخارجية 1997-2005"، تركزت أهداف السياسة الخارجية على إزالة التوتر مع الدول الأخرى، لا سيما من خلال ما أطلقه خاتمي من أفكار حول حوار الحضارات بين الشرق والغرب، لتشهد هذه الفترة انفتاح إيراني على العالم الخارجي وتحسين علاقاتها معه. بل أن خاتمي بعد انتخابه فتح حواراً مع الشعب الأمريكي عبر شبكة "سي.أن.أن" الإخبارية الأمريكية، حرصاً منه على الانفتاح وتوطيد العلاقات الخارجية. كما قامت إيران أثناء ولايته الثانية بتقديم الدعم الميداني للولايات المتحدة في حربها ضد طالبان ومنظمة القاعدة التي كانتا تربطهما علاقات عدائية مع طهران، حيث وافقت في أكتوبر 2001 المساهمة على إنقاذ أي قوات أمريكية تتعرض لمشاكل في المنطقة، كما سمحت للولايات المتحدة باستخدام أحد موانيها لشحن القمح إلى مناطق الحرب في أفغانستان، وشاركت في الدعم العسكري لقوات التحالف الشمالي حتى سيطرت على كابول.
أما التحول الذي اتسمت فيه السياسة الإيرانية فترة تولي نجاد الرئاسة "2005-2013" فقد كانت لصالح عودة غلبة الشعارات الثورية على السياسة الإيرانية، وتعاظم دور الحرس الثوري واتساع نفوذه، ورغم ذلك لم تمنع إيران من الاستمرار في عقد العديد من جولات التفاوض ولقاءات للحوار مع الولايات المتحدة لبحث تطورات الوضع الأمني بالعراق، بل أن خطة فرض القانون أو "خطة أمن بغداد" التي انطلقت في عام 2007، لإقرار الأمن في العاصمة العراقية، كانت لن تخرج للوجود دون مساعدة طهران. كما تحدث نجاد مراراً عن احتمال استئناف العلاقات بين طهران وواشنطن خلال زيارته لنيويورك في سبتمبر 2011 على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ومع فوز حسن روحاني برئاسة الجمهورية في يونيو 2013، أصبحت السياسة الإيرانية في تجاه خطاب جديد يختلف عنه في عهد نجاد وهو قائم على الرغبة في إعادة بناء وتحسين علاقاتها مع دول أوروبا وأمريكا الشمالية على أساس الاحترام المتبادل وذلك على حد قول روحاني نفسه، وهذا تمثل بدايةً وبصورة عملية بتوقيع الاتفاق المرحلي حول الملف النووي.
المتتبع للسياسة الإيرانية يلتمس فيها برجماتية عالية في إدارتها لعلاقاتها الخارجية، فهي لا تستند على أسس جامدة بل تتعامل بمرونة وهامش حركة يمكنها من تطويع أهدافها المعلنة والمبادئ الأيديولوجية التي تستند عليها بما يخدم المصلحة الإيرانية. فايران دولة تشعر بمكانتها ولا يمكن أن تحصر نفسها في حدودها، حيث لها تطلعات ريادية وتعمل جاهدة على تحقيقها وفقاً لإمكاناتها والتأثيرات الداخلية والخارجية التي تواجهها. من هنا يفهم سعي إيران الحثيث لتعظيم علاقاتها وتواجدها أينما سنحت لها الفرصة ذلك، وهي تدير ملفاتها الخارجية بدهاء وحكمة ونفس طويل وتعتمد على جملة من الأساليب التي تتغير بتغير معطيات الواقع، وهي بذلك لا تنتظر مبادرات بل تقدمها وردود أفعالها جاهزة ليس فيها مجال للتردد.
إن إدارة إيران علاقاتها الخارجية أكبر دليل على هذه البرجماتية مع الأخذ بالاعتبار بعد هام في مؤسسات صنع القرار الإيراني، وهو أن الرئيس وتوجهاته الإصلاحية أو المحافظة سيما على الصعيد الخارجي لا تعدو كونها الاختلاف في إدارة الملفات الخارجية وترتيب أولوياتها، فلا خلاف حول تعظيم مصلحة إيران، قيم الثورة، وأصول النظام ومبادئه. كما أن منصب الرئاسة وعلى أهميته في رسم وتنفيذ سياسة إيران الخارجية، إلا أنه يظل يخضع لسلطة أعلى ممثلة بالمرشد الأعلى للثورة - خامنئي حالياً- الذي تعد قراراته تعلو على مؤسسات النظام كافة.
وفي العودة لإدارة إيران لعلاقاتها الخارجية، فهي تبنيها أساساً على المصلحة لا الأيديولوجية الجامدة، والشواهد على ذلك كثيرة في الماضي وقد أشرنا إلى بعضها، وفي الحاضر سنشير إلى جملة من الشواهد على سبيل المثال لا الحصر، فالتحالف الاستراتيجي الذي جمع ولا يزل بين طهران ودمشق، رغم أن رأس النظام السوري يتمذهب بالمذهب الشيعي العلوي البعيد كل البعد عن المذهب الاثني عشري لإيران، وهو يتبع أيضاً حزب البعث الذي يعد أيديولوجياً على طرف النقيض مع الأيديولوجية الإيرانية، هو دلالة على أن الذي يجمعهما المصالح المشتركة التي تجاوزت في الأحيان كافة الخلافات التي ظهرت على السطح في بعض الأحيان. وما تقوم به إيران من دعم واضح للنظام السوري في حربه مع الداخل، يأتي في سياق أهمية هذا الحليف لإيران. إذاً دعمها للنظام السوري ليس كونه شيعياً أو متوافق معها أيديولوجياً، بل لأهميته الاستراتيجية لمصالحها. وهذا ما يفسره الاكتفاء في تقديم الدعم الإيراني الإعلامي فقط للمعارضة البحرينية من معتنقي المذهب الشيعي الاثني عشري الساعين للتغيير، وذلك تماشياً مع ما تفتضيه المصلحة الإيرانية في ذلك.
كما أن علاقتها مع حركة حماس تأتي في السياق ذاته، حيث توطدت العلاقة بين طهران وغزة بشكل خاص بعد انفراد حماس في إدارة القطاع على أثر الاقتتال الداخلي مع حركة فتح، ولولا سخاء الدعم الإيراني لتعثرت في النهوض بمسؤولياتها سيما في بدايات سيطرتها. إن هذا الدعم الإيراني الكبير لحماس رغم الاختلاف معها مذهبياً وأيديولوجيا، وهي تعي جيداً أن الظروف وحدها التي حتمت على حماس قبول توطيد العلاقات معها، رغم ذلك ومن باب المصلحة دعمتها وبدون مقابل على الصعيد المذهبي، حيث لم تطالبها السماح بفتح حسينية في غزة ولم تدعم أي نشاط لنشر التشيع من قريب أو بعيد، حتى أنها لم تضغط عليها في تجاه فتح مركز ثقافي إيراني أسوة في العديد من الدول التي لها مراكز ثقافية في غزة. بل أنه رغم التدهور الذي شاب العلاقات الإيرانية-الحمساوية، نتيجة مواقفهما المختلفة فيما يحصل في سوريا، استمرت طهران في دعمها للجناح العسكري لحماس دون ساستها تأكيداً على حرصها الشديد على عدم قطع العلاقات كاملةً، ومع التماس حماس لتحسين العلاقات مع طهران، لم تتردد الأخيرة كثيراً في عودة العلاقات والدعم للحركة وإن لم يكن بوتيرته السابقة، وذلك رغم استمرار الخلاف بينهما تجاه الأزمة السورية، كل ذلك يفسره البرجماتية الإيرانية التي لا تغفل أهمية غزة كورقة رابحة في سياستها الخارجية، إلى حد يعتبرها الإيرانيون ووفقاً لتصريحات المسؤولين فيها جزءاً من الأمن القومي الإيراني.
في الاتجاه ذاته يأتي التصميم الإيراني على إعادة العلاقات مع مصر، والذي يرجع لتقدير قيمة الفوائد التي ستحققها، وهو ما سيدفعها إلى تذليل العقبات التي تحول دون ذلك وفي مقدمتها العقبة الأمنية، حال تفهمت مصر الدور والمصالح الإيرانية في المنطقة. عليه لن تجعل إيران وعلى عكس ما يروج البعض سيما التيارات السلفية من نشر التشيع، أو دعم أي طرف في مصر عقبة أمام تطور العلاقات الايجابية بين البلدين. ومن الشواهد أيضاً على برجماتية السياسة الإيرانية، إقامة إيران علاقات دبلوماسية مع دول الخليج العربية واتفاقات تعاون في العديد من المجالات ومنها المجال الأمني، رغم ما يطفو على السطح من توتر في العلاقات نتيجة الاختلاف على جملة من القضايا، بل أن الإمارات صاحبة مشكلة الجزر الثلاث تعتبر من أكبر شركاء إيران التجاريين في العالم. هذا علاوة على علاقاتها المتينة مع الصين وكوريا الشمالية رغم اختلاف الأيديولوجيات، يضاف إلى ذلك علاقاتها بالدول الغربية التي تقيم معها علاقات دبلوماسية تتسع وتضيق من باب المصلحة بالطبع لا الأيديولوجية، والأمثلة في هذا الجانب كثيرة.
إن إيران يحذوها طموح كبير عبر أذرعها الطويلة وأوراقها الرابحة في كثير من مناطق نفوذها لتحقيق أهدافها السيادية على الصعيد الإقليمي، وأن يكون لها مكانة يعتد بها على الصعيد الدولي. فلم يكن لها أن تدير ملفها النووي بهذه الطريقة التي استمرت لسنوات طويلة، لولا غياب قدرة كل الدول المعادية لها ولبرنامجها عن ثنيها عن ذلك، والاتفاق النووي المرحلي أكبر شاهد.
إيران لا يعيبها محاولتها الحثيثة لتعظيم قدراتها ومصالحها، فالسياسة هي فن الممكن والغاية فيها تبرر الوسيلة، فإيران تمتلك العديد من أوراق المنطقة عبر قدراتها العسكرية، حلفائها، والملتقين معها مصلحياً أو مذهبياً. ومن يعيب على إيران ذلك فله أن يعيب معظم سياسات الدول ذات الوزن على الساحة الدولية. وإن التهويل من خطر إيران بالتخويف من أيديولوجيتها والمد الشيعي هو مجافي لواقع السلوك الإيراني في علاقاته الخارجية، فاهتمام تمكين علاقات إيران مع الدول الأخرى بما يعظم مصالحها هو أساس سلوكها الخارجي، رغم عدم انكار أنه لو كان لدى إيران قدرة على جعل كل دول العالم تدين بمذهبها وتعتنق أيديولوجيتها لكانت سعيدة بذلك، لكنها لن تبذل قصارى جهدها للقيام بذلك، سيما إن كان له تداعياته السلبية على علاقاتها مع الدول الأخرى ذات الثقل والمهمة لها مصلحياً.
إذاً الجمهورية الإسلامية الإيرانية استندت ولا تزل على أيديولوجية ثورية، إلا أنها وعبر مراحلها المختلفة ظلت تطوع هذه الأيديولوجية بما يخدم برجماتيتها في تعظيم مصالحها. عليه فلتستغل الدول العربية إيران ووزنها على صعيد الساحة الدولية والعمل على إعادة تدشين العلاقات معها على صعيد المصلحة المتبادلة، وهذا يتطلب منها الارتقاء بمكانتها وقدراتها لتتمكن من استغلال علاقاتها بدولة مثل إيران في صالح تعزيز مصالحها ومكانتها الدولية، فإذا دشنت علاقات الدول على قاعدة المصالح المشتركة فإنه من الطبيعي أن يحقق كلٌ مصلحته وفقاً لمكانته.
في المحصلة الدول العربية بغنى عن خلق أعداء وهميين مثل إيران، خاصة أن العدو موجود وقد طال أمد جثومه على الأراضي العربية مهلكاً الحرث والنسل ومدنساً الأرض والمقدسات، إلا إذا أصبحت الدول العربية لا تناصب الكيان الصهيوني الغاصب العداء كما يناصبها إياه!.