لم أعتد أن أفرد مساحة من الوقت للحديث مع الأسرة في شأن حركة فتح وادبياتها، فما كان يسمح به الوقت يقتصر على تناول الأمور الحياتية والتعليمية على وجه الخصوص، كنت وما زلت أؤمن بأن الانتماء لفكرة ومنهج ما هو من مفردات الحرية الشخصية، التي لا يجوز فيها الإملاء والفرض ولا ينفع معها التلقين على طريقة أسلوب التعليم في مدارسنا، حيث الإنتماء هنا لا تخطه كلمات يتم تدريب الطفل على حفظها عن ظهر قلب، بل تنمو معه وتكبر في عقله الباطني لتصبح جزءاً من مكونات الذات، ولن يدخل بها إمتحان تترجم نتيجته شهادة على حائط، بل تتحول بإرادته إلى طاقة يدافع بها عن معتقداته، وتنمي لديه القابلية في الانصهار مع المجتمع بأفراحه وأتراحه، ويبقى الأهم فيها الفهم التجريدي للوطن والدور المنوط به فعله تجاهه، في عملية تتطلب أن يتغلب دوماً فيها العام على الخاص.
في ظل الانشغال بالحياة العامة لم يتسع لي الوقت أن أرقب ذلك النمو داخل أسرتي الصغيرة، إلى أن سمحت بذلك السنوات القليلة الماضية، تملكتني المفاجأة بمدى انغماسهم في الحركة رغم السنوات القليلة التي سمحت لهم بتفهم ما يدور حولهم، لا شك ان الطفل دوماً يرى في والده نموذجا يعمل على تقليده، إلا ان ذلك لا ينسلخ على الايمان بمنهج وفكر يخرجه من الخاص إلى العام، لعل عبقرية حركة فتح لا تكمن في الالتفاف الجماهيري حولها في حقبة زمنية ما، بل في قدرتها على التوسع والانتشار في أجيال متعاقبة وكأنها كرة ثلج تكبر وتتمدد داخل الفئات المجتمعية المختلفة، لعل ما يجب علينا أن نتوقف حياله، أن المادية التي تغلغلت في سلوك البشر، لم يمكن لديها تأثير يذكر في توسع جماهيرية الحركة، خلال إحياء ذكرى إنطلاقة الحركة العام الماضي لم تذهلني الجماهير الغفيرة التي خرجت لساحة السرايا، بقدر ما أذهلني ذلك الحضور لجيل لم توفر حركة فتح لأي منهم مكتسبات شخصية، وبالتالي مشاركتهم لم تكن دفاعاً عن مكتسبات بل ايماناً بفكرة ومنهج وتاريخ، ليسترجعوا بذلك الصورة الجميلة وقت أن كان الانتماء لحركة فتح يكلف صاحبه الكثير دون أن يلوح في الأفق مكتسبات يمكن له أن يجنيها من وراء ذلك.
ما يميز حركة فتح أنها لم تقم على أساليب تنظيمية حديدية تفرض على المنتمين لها السمع والطاعة دون أن تترك لهم مساحة للنقد، بل أنها أفسحت المجال لهم وغالباً ما أخذ طابع العلن، كأنها أرادت أن تقول أن شأنها الداخلي هو شأن كل فلسطيني، وبقدر ما أثار النقد العلني جدلاً داخل الحركة بين مؤيد ومعارض، إلا أنه بإعتقادي رسخ مفهوم الملكية الجماعية لفكر ونهج الحركة، وبالتالي بات الدفاع عنها جزء من الدفاع عن الذات، وهو ذاته الذي دفع التظيمات الفلسطينية الأخرى للاهتمام بالشأن الداخلي الفتحاوي، إلى أن وصل بها الحال للإيمان بأن قوتهم تكمن في قوة فتح.
بقدر ما صنعت حركة فتح من انطلاقتها شأناً عاماً للكل الفلسطيني على إعتبار أنها ميلاد للثورة الفلسطينية الحديثة، بقدر ما يجب علينا أن نحافظ على الدور الحاضن لها لهذا الكل الفلسطيني، وبقدر ما يفرض علينا أيضاً أن نطور من الأداء والمسلك الثوري لها القائم على لغة الجمع لا الطرح والقسمة، ولعل المهمة الأساس التي يجب على الحركة أن تعتمدها في استيراتيجتها القادمة تتمثل في إعادة غرس قانون المحبة من جديد، حيث أن الحركة تمثل للغالبية الأسرة التي ينتميون إليها، والتي تفرض بالفطرة الحب والتكاتف والتعاضد فيما بين افرادها، وبما ينعكس مع الطيف السياسي الفلسطيني المختلف، إن الحركة عبر تاريخها ارتبطت بالفكر والمنهج وهو ما جعل منها شعلة متقدة لا تخبوا بفقدان قادتها ممن سطروا اروع صفحات البطولة، من يعتقد أن حركة بمثل هذا الارث التاريخي يمكن لها أن تنكممش على ذاتها يخطيء في قراءة حقيقة أن الفكرة لا تقبل سوى الانتشار.
[email protected]