نحن والعبرانيون في فلسطين

            (هذه المقالة كتبها المرحوم الأستاذ غازي محمد عودة الدعبلة عام 1982 تقريبا ، ولم يستطع نشرها  لأسباب أمنية في حينه – بسبب وجود الاحتلال الإسرائيلي في غزة - ، ثم  توفي الكاتب ، وقبل أيام في  -  8- 12- 2013 كشف لي أخي الدكتور أحمد دحلان  أستاذ الجغرافية  بان لديه أمانة  ، بل وثيقة مهمة جدا خاصة  بالأستاذ  غازي عودة ،  وهي هذه الدراسة ، وقد استشرته وكذلك بعض الزملاء من أصدقاء الأستاذ غازي ، فاثنوا جميعا على رأي نشرها كما هي دون أي تعديل ، فقام الدكتور محمد بكر البوجي بطباعتها على الحاسوب وتدقيقها ) .

لقد قدر لفلسطين أن تكون نقطة فاصلة بين أعظم حضارتين في التاريخ القديم ، حضارة مابين النهرين وحضارة وادي النيل ، ومن هنا كان لابد لأي إمبراطورية تريد أن تقهر الإمبراطورية الأخرى من المرور بفلسطين ، وقد يكون هذا المرور بالإكراه وقد يكون بالرضا ، وسواء مرت الجيوش بالحرب أم بالسلم فإنها لا تخلف وراءها إلا الدمار والآلام لأبناء المنطقة . ومع ذلك فإن فلسطين لم تعدم بعض المزايا من مرور تلك الجيوش ، فلقد كانت بوتقة تنصهر فيها تلك الحضارتين ، هذا بالإضافة إلي ما تنتجه العقلية المحلية التي كان لها وبدون شك بصماتها التي لا تنمحي في كتاب الحضارة الإنسانية .  فإذا ما أضفنا إلي هذا الأمر تتابع قدوم هجرات الأعراب الرُحًل القادمين من الشرق فإنه يصعب علينا أن نجد نوعية صافية أو عرقاً خالصة للنمط السكاني الذي كان في فلسطين كما هو الحال في بعض الأقوام المنعزلة  انعزالا  شبه تام . فلقد كان بها العناقيون والعمالقة والحيثيون واليبوسيون والأمور يون والكنعانيون ( العهد القديم سفر العدد  الإصحاح 13 فقرة 26) إلى آخر ما هنالك من تسميات نعتقد أن كثيرا منها أنواع لأصل واحد ، ورغم هذه التسميات الكثيرة للجماعات  الموجودة فإنها لا تشكل انفصالا خطيرا أو تعددا فعليا في التركيبة السكانية لفلسطين ، إذ أن الغالبية العظمي لهذه الأقوام ترجع إلي العرق السامي الواحد وأن هذه التسميات على ما نعتقد إنما هي تسميات لشيوخ قبائل متعددة ترجع كلها إلي أصل واحد سرعان ما ذابت واتحدت لتشكل مجتمعا واعدا إذا ما وضعت أقدامها على أبواب الاستقرار في التحضر ، وهذا ما حدث للشعب الفلسطيني على أرض فلسطين . وقبل الدخول في التفصيلات الجزئية نود أن نعرف كيف جاء هذا الشعب الفلسطيني إلي فلسطين؟ ومن هو هذا الشعب الذي ظلم كثيرا وسلب منه تاريخه ظلما واقتدارا وشوهت حقيقته تشويها لم يعانيه شعب آخر على وجه البسيطة؟.  ليت شعري كيف ساد الاعتقاد أن كلمة فلسطين إنما هي تحريف لكلمة بولسطا والتي تطلق على قبيلة من قبائل جزر بحر إيجا في المتوسط ، هذه القبيلة التي هاجرت مع غيرها من القبائل إلي الشاطئ الشرقي للمتوسط وبالضبط في الطرف الجنوبي منه . ولقد حاول واضعو هذا التصور إيجاد سبب مادي يؤيد ما يذهبون إليه أو قل يذهب القارئ عن الحقيقة ، وبعد أن أضناهم البحث وجدوا نصا يتيما مسجلا في أنشودة انتصار "مرنبتاح"- 1225-1215- ق.م. يقول النص كما ترجمه (john wilson )  في كتابه (egyption gevilization) "والأمراء منطرحون على الأرض يصيحون الرحمة ، ولا يرفع واحد رأسه من أهالي الأقواس التسعة ، الخراب للتخنو ، وبلاد خيثا أسكتت ، ونهبت كنعان وأصابها كل شر وسيقت عسقلان وهجم على جزر وصارت ينعم – كبلد – لم يكن له وجود وإسرائيل خربت وزالت بذرتها ، وأصبحت فلسطين أرملة لمصر ، وجميع الأراضي أصبحت هادئة كلها . وكل من كان غير مستقر أصبح مرتبطاً بمرنبتاح ." وبجانب هذا النص صورة للأسري الذين أسرهم مرنبتاح من فلسطين . ملامح هذه الصورة تتميز بالأنف ذي القصبة المستقيمة وبالريش الموضوع على الرأس مما أغراهم على القول أن هذه الصورة تبتعد بعدا ما عن الشخصية السامية التي تغلب عليها الملامح الصحراوية / وأقرب شكل ترجع إليه الصورة هو شكل القبائل البحرية التي طالما روعت الإمبراطورية المصرية بغاراتها المركزة والقوية والمفاجئة . هذا كل ما قدمه لنا المؤرخون في أصل التسمية التي تنسب إلي نوعية من السكان . لعل الدراسة اللغوية تلقي شيئا من الضوء على أصل التسمية إذ كثيرا ما قادت الدراسة اللغوية إلي حقائق مذهلة لم يكن بالإمكان التوصل إليها لولا تلك الدراسة أن كلمة ( פְּלֶשֶׁת ) فلشت . والتي تعني فلسطين ، هذه الكلمة الكنعانية القديمة والسامية الخالصة والتي وردت كثيرا جدا في العهد القديم لو أرجعت إلي أصلها اللغوي لكانت ( פָּלַשׁ ) فلش . وفلش هذه تعني كما يقول ( William geseniuse ) في معجمه (the  old testament Ahebrew and English of lexicon of  ) في مادة ( פָלַש dig ahole   )  أي يحفر ولو بحثنا في اللغة السريانية لوجدنا نفس الجذر (فلص) وبنفس المعني . وإذا ما تقعرنا في البحث عن الأصل اللغوي سنجد الصورة الأصلية للفظة وعلى ما نظن فإن هذه الصورة الأصلية ترجع إلي عهد قريب من السامية الأم ونعني بتلك الصورة الجذر القديم(   פָלַג       palag) كما هو موجود في العبرية العتيقة ونفس الجذر (فلس ) في اللغة الآرامية والذي يعني في كليهما شق (  palgu ) في الأكادية بمعني قناة ( falag )   في الحبشية بمعني جدول  وفلج وفلج في العربية بمعني شق (التطور اللغوي،مظاهره علله وقوانينه ، رمضان عند التواب ص18). لكن كيف تطورت هذه الجيم – تنطق كالجيم القاهرية – إلي شين؟ يقول علماء اللغة والمتخصصون في اللغات السامية أن من التغيرات التاريخية لصوت الجيم  انحلاله إلي الشين .

وأقدم انحلال إلي الشين المجهورة وقد ضاع منها الجهر فصارت شينا  مهموسة كالشين الأصلية في العربية ، فقد روى عن قبيلة تميم إنهم كانوا يقولون في المثل (شرما أشاءك إلي فحة عرقوب) بدلا من أجاءك. ومن هنا فإنه يمكننا القول أن الجذر الأصلي له علاقة قوية بالأرض  وبشقها وأن المعني المجرد لهذا الجذر يطلق على العمل في الأرض كشقها وفلاحتها .وهذا الجذر يشبه الجذر العربي الحالي (فلح) والمقارن لهما يلمح بسهولة قرابة الأصل و المعني ويؤيد هذا المعني أيضا  ى: قوجحان في معجمه . ومن هنا نستطيع القول أن (פָלשׁ ) تعني فلح والأرض المفلوحة (  פְלֶשֶׁת  ) أما الفلاح فيعني ( פְלֶשֶׁתִי) . ورد في صفر صمويل الأول الإصحاح السابع عشر الفقرة 26 : ( כִּי מִי הַפְלֶשֶׁתִי הֶעָרל הזֶה כִּי חֵרֶף מַערכוֹת אֶלוֹהִים   חֲיים) لأنه من هو هذا الفلسطيني الأغلف الذي يغير صفوف الله الحي . أما جمع (  פּלשׁתי ) كما هو معروف في اللغة العبرية فهو بإضافة ياء وميم فتصبح الكلمة (פלשׁתִים ) . وبمقارنة هذه اللفظة باللفظة الحالية فلسطين فإننا نجد أن الكلمتين عبارة عن كلمة واحدة . وهكذا نرى أن الفلسطينيين ليسوا غرباء عن الأرض وإنما هم السكان الحقيقيون للأرض الممتدة من نهر الأردن إلي البحر الأبيض ولقد كان يسكن في هذه المنطقة شعب واحد من أصل واحد إلا أن التسميات قد اختلفت نسبة إلي حرفة سكان المنطقة.

ونظرة خاصة إلي الصورة , التي نشرها (Nerman bull m A   ) في كتابه (  Prephets of the Jews   ) الجزء3 ص2،21وهي تمثل لوحة على جدران معبد الكرنك تخليد ذكري انتصار شيشنق واستيلائه على فلسطين وهي تضم تسع وستين صورة للأسري الذين أسرهم كل صورة لأسير ترمز إلي بلد أو مدينة فلسطينية تقول أن جميع الأسري شكل واحد لا يختلف أحدهم عن الأخر وهم يضعون على رؤوسهم غطاء يشبه الكوفية وربطة على الرأس تشبه العقال وهذا يدل على أن الشعب الفلسطيني كله كان شعبا واحدا ولم ترد في ذلك الرسم إلي صورة الأسري يهود أو إلي نوعيات تختلف عن السكان المحليين . نقول لقد اختلفت تسميات السكان في المنطقة نسبة إلي الحرف التي كانت يقومون بها وحسب رأينا فقد كانت هناك ثلاث أماكن رئيسة : منطقة التجار  حيث كان يطلق عليها الكنعانيون ذلك أن لفظة كنعان كانت تعني : تجار . وقد وردت اللفظة كثيرا بهذا المعني في العهد القديم حيث أن ( אֶרֶץ כּנְעָן ) تعني كما يقول ( Land of merchants Gesenius ) أي أرض تجار كذلك لفظه كنعان (             ) في اللغة السريانية تعني تاجر وبنفس المدلول فلقد كانت المنطقة التي تسكنها هذه الشريحة من الناس هي المنطقة الشمالية حيث الأماكن الصالحة لرسو السفن  والتي يحتاجون إليها في تجارتهم . أما الفلاحون فلقد كانوا يسكنون على ما حددت لنا التوراة – المنطقة الوسطي - وكانت منطقتهم تشكل مثلثا قاعدته على البحر الأبيض المتوسط تمتد من رفح وحتى مدينة أسدود وكانت أشهر مدنهم خمسة مدن وهي : غزة , جت , عسقلان , سدود, عقرون .ولقد اشتهر الفلاحون بتعاونهم لدرجة أنهم شكلوا دولة واحدة لدرجة أن ( Homer smith) اعترف في كتابه (  Man and his Gods ) بأن المنطقة : كلها لم تشهد تعاونا كالذي كان بين الفلاحين الخمس :

ومع التسليم لهذه الحقيقية من قبل المفكرين اليهود ومن حذا حذوهم ممن تأثر بالفكر الصهيوني والحضارة العبرانية فإننا نري أن هذا فقط جزء من الحقيقة والذي نذهب إليه أن الدولة الفلسطينية في تلك الحقبة التاريخية لم تكن محصورة في المدن الخمسة فقط , وهي المدن التي ذكرتها التوراة بل كانت أكثر من ذلك وإلا ما معني أن يعلق اليهود الفلسطينيون رأس شاؤول وابنيه  على أسوار مدينة بيسان إن لم تكن بيسان مدينة فلسطينية وذات أهمية . أ – الحقائق تقول كما قلنا إلي أن المنطقة التي كان يسكنها الفلسطينيون أيام الغزو العبراني لهم كانت تشمل كل أرض فلسطين . أما المجموعة الثالثة والشريحة الثالثة فهم الرعاة والذين كانوا يسكنون المنطقة الجنوبية . نعود ونؤكد أن هذه التقسيمة السكانية لم تكن تقسيمة سياسية وإنما كانت تقسيمة تطلق من باب التعريف أو التخصيص .هؤلاء هم الفلسطينيون فمنهم العبرانيون أ قبل أن ننافس أصل التسمية نود أن نشير أن العبرانيين في نظرنا ينقسمون إلي ثلاث مراحل اجتماعية فكرية :

المرحلة الأولي : العبرانيون قبل إرسال النبي موسي إليهم . المرحلة الثانية العبرانيون زمن النبي موسي . المرحلة الثالثة العبرانيون بعد النبي موسي . ورغم أننا لن نتمكن من إظهار المميزات الخاصة بكل مرحلة في هذه العجلة إلا أننا سنتحدث فقط عن الفقرة التي سبقت النبي موسي عليه السلام وقد نأتي نشئ موجز عن فترة وجوده ، لعل أقدم كلمة وصلت إلينا قريبا من لفظة العبرانيين كلمة (عبيرو) فقد بعثت أكثر من رسالة من أمراء محليين إلي رؤسائهم يطلبون فيها المساعدة لأن قبائل العبيرو تهاجم مدنهم . وقد كشفت في تل العمارنة في مصر رسائل يرجع تاريخها إلي القرن الرابع عشر ق.م عصر الملك أمين حوطف موجهة من أمراء فلسطينيين إلي فرعون مصر يطلبون منه النجدة لأن قبائل عبيري أو حبيري ( Habiri  ) تغزو فلسطين وتتوغل من ناحية الصحراء (اسرائيل ولفنسون، تاريخ اللغات السامية ، طبعة بيروت ص78،79). والغريب أيضا أن نجد مثل هذه الرسائل موجهة إلي ملوك آشور فهذا هو أمير (مردك) (قرية ضمن محافظة السويداء، ومردك أساسا اسم إله حمورابي) يبعث برسالة إلي رئيسه الأشوري يطلب منه مساعدته للقضاء على العبيرو الذين يهاجمون مدينته . وينشر لنا (          John Gray ) في كتابه (  Near eastern mythology) ص109 لوحة وجدت في مقبرة (              rekhmire ) بالقرب من ( Thebes ) في مصر العليا  يرجع تاريخها إلي القرن الخامس عشر قبل الميلاد ومرسوم في تلك اللوحة مجموعة من

  Khabiru ) الذين نعتقد أنهم العبيرو المشار إليهم تقوم بأعمال مبتذله . مما يدل على أنهم ينتمون إلي طبقة من الطبقات الدنيا , لقد أيد بعض المستشرقين نظرية أحبار اليهود القدماء في القول أن العبرانيين نسبة إلي إبراهيم عليه السلام الذي عبر النهر ، ولكن أي نهر ؟ نحن لا نعلم لكن الكتاب المقدس العهد القديم يقول : آباؤكم سكنوا في عبر النهر منذ الدهر ثارج أبو إبراهيم وأبو ناحور وعبدوا  آلهة أخرى ، فأخذت إبراهيم أباكم من عبر النهر (العهد القديم، سفر يوشع ،الاصحاح4  فقرة 3) ويري آخرون أن العبرانيين نسبة إلى عابر أحد أباء إبراهيم الأقدمين ، يقول الكتاب المقدس العهد القديم : وسام أبو كل بني عامر ، ولعابر ولدانان (العهد القديم ، سفر التكوين ، الاصحاح 10 ، فقرة 21 ،25 ).

وكعهدنا فإننا لا نجد لنا سوى أن نلجأ إلى الأصل اللغوي للكلمة . لوجردنا اللفظ عبيرو واللفظ عبراني لوجد لدينا الجذر الأصلي (عبر ) ذا الصيغة السامية والتي يقابله في اللغة العربية (عرب) مع ملاحظة وجود القلب المكاني الشائع في الألفاظ المشتركة بين العربية والعبرية كما هو الحال في لفظة حنش ,( נחש ) . وعبر هذا تعني في العبرية والعربية الذي ينتقل من مكان إلى آخر وهي تدل علي التجول والتنقل الذي هو أخص ما يتصف به سكان الصحراء . فكلمة عبري مرادفة لكلمة بدوي أي سكان الصحراء والبادية . يقول إسرائيل  ولفنسون ص77 : أن كلمة عبري في الواقع لا ترجع لشخص بعينه إنما هي ترجع إلي الموطن الأصلي لبني إسرائيل وذلك أن بني إسرائيل كانوا في الأصل من الأمم البدوية الصحراوية التي لا تستقر في مكان بل ترحل من بقعة إلى أخري بإبلها وماشيتها للبحث عن الماء والمرعى . ونظرة فاحصة في العقلية العبرية القديمة ربما تؤيد ما نقول به وهو أن العبرانيين قبائل بدوية كانت تتجول في الصحراء وتعيش على أطراف العمران . . نحب أن ننوه هاهنا أن ما نسوقه حدث بعد أن ترك اليهود ديانة النبي موسي عليه السلام حيث بدلوا وأشركوا يقول ( Freud) في كتابه ( and monotheism  Moses       ) ص135: أما الشعب اليهودي فقد قيض له القدر سلسلة من الامتحانات القياسية  والتجارب المؤلمة ومن ثم صار إلهه إلها صلبا قاسيا متدثرا بالكآبة. ويقول في مكان أخر ص 113 : فلقد كان إلها فظاً ضيق العقل محليا عنيفا ومتعطشا للدماء وكان قد وعد أتباعه أن يعطيهم أرضا تفيض لبناً وعسلاً وشجعهم على أن يخلصوا البلد من سكانها الحاليين ويقول أيضا (     Meyer Eduard) في كتابه ( Dif Jesraeliten und ihre Nachbarsteame) :  أي أنه إله إسرائيل – الجديد طبعا – مارد مهلك متعطش للدماء يسير بالليل ويتجنب ضوء النهار .

إن هذه الطباع القاسية التي خلعها العبرانيون على إلههم بعد أن تركوا شريعة النبي موسي المرسلة إليهم لا تدل إلا  على نفسيتهم التي عكست هذه الصفات على الإله  . وهذه الصفات المذكورة لا يمكن أن تتناسب إلا مع البدو سكان الصحراء التواقين دائما إلي السلب والنهب ، المتعطش إلي الدماء والدمار . ثم أن المتمعن في قرابينهم أو احتفالاتهم الدينية لا يستطيع أن يستنتج إلا أن هذه الطقوس طقوس صحراوية . نأخذ مثالا ( عيد الفصح ), يتفق تاريخ عيد الفصح مع كون القمر بدرا أي أنه في وسط الشهر القمري وتقدم في هذا العيد الأضحية التي تذبح ليلا في العراء تحت ضوء القمر ويشترط ألا يظل من الذبيحة شيء إلي نهار اليوم التالي خشية أن تراه الشمس . معني ذلك أن القربان كله لابد أن يقدم للقمر، والقمر كما هو معروف إله صحراوي نظرا لما يقوم به من خدمة الليل لسكان الصحراء . ولقد نشر مؤلف كتاب( אֶלֶף מלִים ) صورة في كتابه كان عنوانها ( העברי הראשון ) أي العبري الأول ، يتصور فيها النبي إبراهيم عليه السلام بصحبة نسائه كرجل بدوى يقود جمله.

وبإدراك هاتين الحقيقتين حقيقة أن الفلسطينيين وكونهم فلاحين أصحاب أرض زراعية , وحقيقة أن العبرانيين بدو رحل يهاجمون المناطق الزراعية ويغيرون عليها مثلما كان حادثا في كل الأماكن الزراعية المجاورة للصحراء، نستطيع أن ندرك أن سر الخلاف القوي الذي حصل بين العبرانيين والفلسطينيين . لقد بدأ مهاجمة القبائل العبرية لفلسطين من المنطقة الواقعة شمالي البحر الميت ومن مدينة أريحا بالذات والتي تعتبر أقدم مدينة في تاريخ الإنسان الحديث. ولم تكن هجمة القبائل العبرية على فلسطين والتي يؤرخ لها علماء التاريخ بنهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد والتي دخلوا بها أرض فلسطين هي الأولي والوحيدة بل سبقتها هجمات أخرى وأكثر من مرة، كانوا يغيرون على المدن الفلسطينية ذات العمران والزراعة ثم يعودون إلي الصحراء ، ولكنهم هذه المرة فيما يبدوا قرروا أن يستولوا على تلك المدن , يظهر ذلك من الرسائل التي كان يبعث بها أمراء فلسطينيون إلي فراعنة مصر في أكثر من زمان ، تقول : أن هذه الهجمة اختلفت عن مثيلاتها فقد قررت القبائل العبرية أن تستوطن هذه المرة المدن الفلسطينية لعلها ملت من حياة الصحراء وقساوتها فأرادت أن تستولي وبنفس الأسلوب الصحراوي على عمران لم تقمه وعلى زرع لم تزرعه .

ومن هنا كانت الهجمة قوية وشرسة أبعد ما تكون الشراسة والقوة لدرجة أنه عندما دخلوا أريحا ضربوها بحد السيف , ولم يبقوا بها أحدا . يقول الكتاب المقدس العهد القديم ، سفر يشوع إصحاح 6 فقرة 24: وأحرقوا المدينة بالنار مع كل مابها. ويقول في نفس السفر إصحاح الفقرة 25 : أما مدينة "عاي" فكان الذين سقطوا في ذلك اليوم من رجال ونساء اثنا عشر ألفا جميع أهالي عاي . هكذا فعلوا مع كل من صادفوه في طريقهم ، لأنه كان من قبل الرب أن يشدد قلوبهم حتي يلاقوا إسرائيل للمحاربة فيجرموا فلا تكون عليهم رأفة بل يبادوا كما أمر الرب موسي "يشوع" إصحاح 11 .أمام هذه الشراسة الفاتكة والتي لا تبقي ولا تذر من الطبيعي أن يتشرد خلق كثير وأن يتركوا أماكنهم باحثين عن الأمان وخوفا من الموت فهرب الكنعانيون - التجار – ذلك أن ثروتهم من السهل جدا أن تنقل واتجهوا إلي الشمال ، أما الرعاة فاتجهوا إلي الجنوب حيث دخلوا في الصحراء الجنوبية ذلك أن أغنامهم يمكن لها أن ترحل معهم . أما الذين لم يستطيعوا الرحيل فهم الفلاحون الذين لا يستطيعون أن يحملوا أرضهم معهم فانغرسوا فيها كجذور الشجر. فكان من الطبيعي أن يقود الفلاحون الكفاح المسلح ضد القبائل العبرية ولقد كان كفاح الفلاحين شرسا وقوياً كاد أن يفتك بالقبائل العبرية، فقد استعمر الفلاحون العبرانيين أربعين سنة. وفي ذلك الوقت كان الفلسطينيون متسلطين على إسرائيل قضاء إصحاح 14 فقرة 4 . من خلال هذا العرض الموجز بإمكاننا تفسير ظاهرتين : الظاهرة الأولي : سبب العداء المستحكم بين الفلسطينيين والعبرانيين . والظاهرة الثانية : لماذا ترك العبرانيون اسمهم  الأول "العبرانيون " واتخذوا لهم اسما جديدا هو" إسرائيل"  أو اليهود .في نظرنا أن تفسير هاتين الظاهرتين يترتب عليه نتائج مرتبطة ببعضها البعض .

 

بقلم : غازي محمد عودة الدعبلة

جامعة الأزهر – غزة