الدين .. اللغة ..العادات ..التقاليد ..الثقافة، كل هذه وغيرها تصب في بوتقة وحدة الأمة، كان يمكن لنا أن نكتفي بالقليل منها لنحمي جسدنا من تغلغل فيروس الانشطار الرأسي والأفقي داخل مجتمعاتنا، وننأى بأنفسنا عن التصنيفات التي باتت تتمتع بخاصية الانشطار النووي، لا أعرف كيف تسللت من بين ظهرانينا تلك المصطلحات التي وضعتنا في خانة التناطح فيما بيننا، داخل المجتمع الفلسطيني الاستقطاب بين الوطني والديني استفحل في مكونات حياتنا، بات لدينا قوى وطنية وأخرى اسلامية، وكان لدينا لجنة عليا للقوى الوطنية والاسلامية، تحولت بعد الانقسام إلى هيئة العمل الوطني والاسلامي، لم نتوقف البتة عند العلاقة بينهما رغم ما يحمله التصنيف من تجن، ألا يقودنا هذا التصنيف الذي قبلناه بجهل مطبق إلى ان الوطني غير إسلامي والإسلامي غير وطني، وهل تحول الوطني لدينا إلى خانة أعداء الاسلام وتخلى الاسلاميون عن وطنيتهم؟.
طبيعي أن ينشأ التباين في وجهات النظر وبرامج العمل داخل المجتمع، وطبيعي أيضاً أن يدافع كل منا عن وجهة نظره كونه يؤمن بأن الصواب فيها والخطأ فيما سواها، ولكن هذا لا يعني أن أياً منا يمتلك الحقيقة كل الحقيقة، أنا وطني ولا أقبل أن يسقط أي كان عني هويتي الاسلامية، وبالمقابل لا اعتقد أن الاسلامي يقبل أن يتجرد من وطنيته، ما بات واضحاً أن الاستقطاب داخل ساحتنا الفلسطينية تقدم على حساب الوطن، تقدمت الفصائل وتراجع الوطن، من يحاول أن ينكر ذلك فهو يحيد عن الصواب، ألم يتراجع العلم الفلسطيني أمام الرايات الحزبية؟، ألم تعد ذكرى إنطلاقة فصائلنا تتقدم على ما سواها؟، ألم يتحول اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني إلى يوم عادي لا نتضامن فيه مع أنفسنا؟، ألم نمعن في التصنيف حتى طال الأسير والشهيد؟، ألم نختلف ووصل أحيانا بنا الاختلاف إلى الشجار حول تبني شهيد؟، حتى الأطفال الشهداء منا لم يسلموا من عبثنا هذا؟، ألم تسارع وتقاتل فصائلنا لفرض حضورها في بيت عزاء طفل لم يعرف بعد حروف لغته كي يعرف برامج فصائلنا؟، ألم يعد التصنيف يفرض ذاته على مناحي الحياة المختلفة حتى الزواج منها؟، ألم تعد الفصائل تتمتع بالقداسة فيما القدس ذاتها تراجعت قدسيتها وجار تهويدها على قدم وساق أمام اعيننا وتحت سمعنا؟.
قد نجافي المنطق إذا ما قلنا بأننا لسنا بحاجة للتصنيف داخل مجتمعنا، ولكن المنطق ذاته لا يقر لنا بأن نذهب بالتصنيف إلى حد التصادم الفكري الذي يخرجنا من دائرة الوطن الأكبر والأعم والأهم إلى دائرة الحزب والفصيل الذي مهما اتسع يبقى أصغر بكثير من تاريخ وجغرافية الوطن، التصنيف يمكن له أن يأتي من تباين البرامج السياسية إلا أن المعتقدات تبقى الجامع الأكبر لها، ويحافظ الوطن على مظلته للجميع، إن الحالة التي وصلنا إليها تسترعي من الجميع أن يتوقف حيالها، ليستكشف انعكاساتها الخطيرة ليست على حاضر الوطن فقط بل على مستقبل النسيج المجتمعي، ما الذي يتبقى من معاني الحرية إن حققنا شيئا منها وفقدنا وحدتنا المجتمعية، لعل ما تشهده الدول العربية يدفعنا لأن نمعن النظر فيه ونتعلم منه، فنحن جزء من هذه الأمة بسلبياتها وإيجابياتها، ولسنا ملائكة لا نرتكب أخطاءهم وخطاياهم، يقول بسمارك "أن السذج فقط هم من يتعلمون من أخطائهم أما أنا اتعلم من أخطاء السذج"، يبدو أننا لا نريد أن نتعلم من أخطاء الآخرين ولا حتى من أخطائنا.
يعتقد البعض بأننا أشبعنا الانقسام حواراً ونقاشاً، لكن الحقيقة أننا لم نجر حواراً فكرياً معمقاً نجيب من خلاله عن الكثير من القضايا التي تجرعنا مضامينها بفعل قبولنا بالتصنيف بين الوطني والاسلامي، فما زلنا نفتح أبواب الاختلاف فيما بيننا ونوصد الأبواب المؤدية إلى المساحة التي نلتقي فيها، الدول التي سجلت لها مكاناً مرموقاً في هذا العالم تغلبت على التناقض في العرق داخل مجتمعاتها، فيما نحن ما زلنا نبحث عما يوسع الفجوة بين مكونات مجتمعنا صاحب القواسم المشتركة المتعددة ونحن نطوي عاما آخر من عمر الانقسام.