ثلاث قضايا أساسية شغلت الفلسطينيين خلال الثلاث سنوات الماضية : (الربيع العربي) والمصالحة الفلسطينية والمفاوضات ، والجزء الأكبر من الفلسطينيين رهن مصير فلسطين بما تؤول إليه الأمور في هذه القضايا وتم عقد آمال كبيرة عليها ، إلا أنه مع نهاية عام 2013 تبددت كل الآمال في وقت واحد ، فالربيع العربي بات كابوسا عربيا ، وكيف لا وجماعة الإخوان المسلمين التي كانت تتصدى المشهد باتت في مصر جماعة إرهابية وفلسطينيو غزة يدفعون الثمن !، والمصالحة والوحدة الفلسطينية باتت خطابا لا يقل في طوباويته عن خطاب الوحدة العربية في الخمسينيات والستينيات ، والمفاوضات انتقلت من العبثية إلى التلاعب بمصير الوطن ولا يحصد منها الفلسطينيون إلا مزيدا من الاستيطان والتهويد.
وسنوضح الأمر كما يلي:
1- من وعود الربيع العربي إلى متاهات الحروب الأهلية
بالرغم من أن شكوكا كانت تراودنا حول حقيقة ما يجري في الدول العربية ما إن كانت ثورات عربية وربيع عربي أو (الفوضى الخلاقة ) التي بشرت بها واشنطن منذ عام 2004 ، وذلك بسبب سرعة الأحداث وتزامنها في أكثر من بلد وحضور الغرب وواشنطن مع جماعات الإسلام السياسي وخصوصا جماعة الإخوان المسلمين في كل ساحات الأحداث . إلا أن الانسياق وراء الحس الشعبي والتدافع الكبير للجماهير الشعبية بوعي أو بدون وعي للمشاركة فيما تعتقد أنها ثورة ، ورغبتنا الدفينة بأن يكون ما يجري ثورة حقيقية ، كل ذلك جعلنا نبني الآمال ونؤجل الأحكام القاطعة لحين اتضاح الصورة . وجاء التدخل الغربي الفج في إسقاط نظام ألقذافي في ليبيا ثم اغتياله ، وبروز النزعات القبلية والتقسيمية مختلطة مع الحضور القوي للسلفيين وجماعة القاعدة ،ليطرح سؤالا كبيرا : أية ثورة شعبية هذه يقودها ويوجهها حلف النيتو ؟ وأية ثورة تبدل دولة واحدة موحدة حتى وإن حكمها دكتاتور بحالة من الفوضى وبدول طوائف على رأس كل منها جماعة مستبدة ودكتاتورية؟ ، وبعد ذلك جاءت الأحداث في سوريا وقوة حضور جماعات الإسلام السياسي ، وخصوصا من تنظيم القاعدة، المتحالفة مع الغرب وقطر وتركيا لتزيد من حالة الشك لدينا حول حقيقة ما يجري في العالم العربي ، فهل صحيح أن ما يجري ثورة شعبية ؟ أم إنها الخراب والدمار للدولة والمجتمع ؟ ، وجاء حكم مرسي في مصر وتداعياته، ثم الثورة على الثورة يوم 30 يونيو ليتبدد ما تبقى من أوهام حول الربيع العربي .
2- أكذوبة ووهم حوارات المصالحة
من مكة إلى صنعاء،ومن داكار إلى القاهرة ، ومنها إلى الدوحة الخ ، توالت جولات المصالحة لمدة سبع سنين دون التوصل إلى نتيجة ، بل ازداد الانقسام وترسخ وانتقل من انقسام جغرافي وسياسي لانقسام مجتمعي وثقافي . فهل الانقسام عصي على الحل لهذا الحد؟ وهل كل الدول والأطراف التي تدخلت لإنهاء الانقسام بين الأخوة الفلسطينيين بما تملكه هذه الدول من إمكانيات وعلاقات عجزت بالفعل في التقريب بين مواقف طرفي الانقسام – حماس وفتح - ؟ وهل حركتا فتح وحماس صادقتان في جهودهما لإنهاء الانقسام ولكن عجزتا عن التفاهم ؟ وهل تستطيع حركتا فتح وحماس إنهاء انقسام فصل غزة عن الضفة وإعادة توحيدهما في سلطة وحكومة واحدة كما كان الأمر قبل سيطرة حماس على قطاع غزة في يونيو 2007 ؟ .
في رأيي أن لعبة كبرى من الكذب والتدجيل على الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية تمارسها الحركتان وبعض الدول التي رعت جولات المصالحة ، ذلك أن قيادات عليا في حركتي فتح وحماس وقيادات بعض الدول العربية يعرفون بأن ما جرى يوم 14 يونيو 2007 عندما سيطرت حركة حماس على قطاع غزة ، لم يكن لا انقلابا كما تقول حركة فتح ولا حسما كما تقول حركة حماس ، أيضا لم يكن ما جرى نتيجة خلاف سياسي بين فتح وحماس فقط، بل كان مخططا استراتيجيا لإسرائيل لتدمير المشروع الوطني الفلسطيني - دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة - من خلال فصل غزة عن الضفة ، وهو مخطط رُسِمت خيوطه ووضِعت تفاصيله منذ أكثر من عقد من الزمن في كواليس مؤتمرات هرتسيليا الصهيونية وباشر شارون بتنفيذه عام 2005 عندما انسحب من قطاع غزة بتفاهم وتنسيق خفي مع أطراف فلسطينية وعربية ودولية.
ولأنه مخطط استراتيجي شاركت فيه أو عَلِمت به أطراف فلسطينية وعربية تشارك في جولات المصالحة ، فإن كل ما جرى في جولات المصالحة كان مجرد تضييع للوقت وخداع للشعب ومحاولة كل طرف تحميل المسؤولية للطرف الآخر ، فيما القيادات العليا للطرفين تعلم أنها أعجز من أن تُعيد توحيد غزة والضفة في سلطة وحكومة واحدة إلا بتفاهم وتنسيق بل وموافقة إسرائيل ، أي أن الشرط الإسرائيلي ضروري لإنهاء الانقسام ، ومع الأحداث الأخيرة في مصر بات الشرط المصري شرطا أساسيا في موضوع المصالحة .
لا يعني هذا اليأس من مصالحة وطنية تعيد الاعتبار للمشروع الوطني وتضع حدا لحالة التدهور الشاملة ، بل تأكيد أنه في ظل واقع الحزبين والسلطتين في الضفة وغزة لا يمكن لهذين الحزبين إنجاز إلا مصالحة الانقسام ، أما المصالحة الجادة فتحتاج أولا لاستنهاض وتغيير واقع الحزبين والسلطتين بتحريرهما من الارتهان لأطراف خارجية ، ودمج قوى شعبية جديدة في عملية المصالحة التي يمكن ويجب أن تبدأ بإعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير وتوحيد الجهود لحراك دولي للمطالبة بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية بخصوص فلسطين وان يكون هذا الحراك مصحوبا بمقاومة شعبية للاحتلال أو انتفاضة شعبية شاملة لكل أماكن تواجد الفلسطينيين .إن المصالحة الوطنية الحقيقية والممكنة هي مصالحة توحيد الجهود لمقاومة الاحتلال ، فالمواجهة الساخنة مع العدو هي التي ستصهر الشعب وتوحد قواه السياسية وتكشف الوطني من غير الوطني.
3- وهم أو أكذوبة أن المفاوضات وحدها ستحقق قيام الدولة الفلسطينية المستقلة
بعد عشرين سنة من المفاوضات مع إسرائيل في ظل استمرار الاستيطان ، يبدو أن المفاوضات تحقق أهدافا متعددة لأطراف متعددة إلا هدف التوصل للدولة الفلسطينية المستقلة . فالمفاوضات تؤَمِن : استمرار السلطة ، استمرار النخبة الحاكمة في الحكم ،استمرار إعاقة استنهاض المشروع الوطني التحرري ، تكريس حالة الانقسام وإعاقة المصالحة ، استمرار تفرد واشنطن بالتسوية وبإدارة ملف الصراع في المنطقة ، تحقق لإسرائيل استكمال مشروعها الاستيطاني التهويدي في الضفة والقدس ...، ولكن الشيء الوحيد الذي فشلت وستفشل فيه المفاوضات إن استمرت على ما هي عليه هو قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية ، وحل عادل لقضية ألاجئين .
وعليه ، فالمشكلة ليست في مبدأ المفاوضات ، فهذه الأخيرة أداة من أدوات حل النزاعات ، بل في إستراتيجية المفاوضات وكيفية إدارتها . المفاوضات كالحرب تحتاج لتوظيف كل أوراق القوة على طاولة المفاوضات ، ومشكلة المفاوض الفلسطيني أنه يخوض المفاوضات مجردا من كل أوراق القوة ، وبدون إستراتيجية – سوى إستراتيجية الحياة مفاوضات التي ابتدعها صائب عريقات - ، فقط يراهن على الوسيط الأمريكي معتقدا أنه يمكن أن يكون نزيها ، وعلى حسن نية إسرائيل بعد عشرين سنة من اختبار حسن النوايا.
معنى هذا أن المفاوض الفلسطيني يراهن على الوهم ، ولا ندري إن كان هذا جهلا أم تواطؤا ؟ والطامة الكبرى أن المفاوض الفلسطيني يتجاهل الشعب وما يتيحه من أوراق قوة تدعم المفاوضين . إن قيادة تخوض مفاوضات مع عدو يحتل الأرض دون أن توظف قدرات الشعب – ولا شعب بدون أوراق قوة - لا يمكنها أن تحصد سوى سرابا أو مزيدا من فقدان الأرض ، كما يتجاهل المفاوض الفلسطيني الشرعية الدولية وقراراتها ، وهذا ما يفسر المأزق الذي وصلت إليه المفاوضات أخيرا حيث القيادة أمام خيارات صعبة.