التأفف يرافقنا كأنه ظل لنا، لا نختلف حول مضمونه ولكن نختلف في أدوات التعبير عنه، يلجأ اليه الغني والفقير، الموظف والعاطل عن العمل، المثقف والأمي، المنصهر في هموم المجتمع وشجونه والمتربع على مقعده في برجه العاجي، كأننا نحاكي في شكوانا رائعة شاعرنا الكبير محمود درويش «لا شيء يعجبني»، هل حقاً لا نرى سوى الألوان الرمادية أم أننا نمتلك القدرة الفائقة على استحضارها والعيش في كنفها؟، والأهم هل التذمر يخرجنا مما نحن فيه وينقلنا الى مساحة وردية تختفي فيها المنغصات؟، وهل بات قدرنا أن تعابير وجوهنا تعتبر الابتسامة ضيفاً ثقيلاً عليها غير مرحب به؟.
لجأت بعض الدول الى فكرة تبادل الأدوار، قد تبدو غريبة بعض الشيء، لكنها تنقلك الى بيئة مغايرة لما اعتدت عليه، حيث أجبرت موظفيها من أصحاب «العمل الذهني» على خوض تجربة «العمل البدني» لمدة شهر، مؤكد أن ذلك سيدخلك الى حيز المقارنة، ومؤكد أن التأفف والتذمر منه يختلف عما كنت تعيشه أو يعيش معك، المهم أن نمط الحياة المختلف والمغاير لما أنت عليه لن يحررك من الشكوى بقدر ما يشعرك بشكوى الآخرين، مؤكد أن للشكوى لدينا قواعد صلبة نتكيء عليها، وليس من المنطق في شيء تجاهلها أو القفز عنها، ومفرداتها تتمدد طولاً وعرضاً في مكونات حياتنا، وتتغلغل فينا الى أدق التفاصيل، لكن السؤال هل التأفف منها يقتلعها من جذورها ويخرجها مع عاصفة الزفير المنطلقة من أعماقنا ويلقي بها في الفضاء الرحب؟، مؤكد أن قوة الزفير لا تغير من البيئة المحيطة بنا، وكل ما تفعله تعديلاً في كيمياء الجسد بما يفاقم من الثقل الملقى على كاهله.
ليوم كامل غادرت القراءة والكتابة «رغماً عن أنفي»، تنقلت فيه بين أعمال المنزل المختلفة، كنت ضيفاً ثقيل الظل على أركان المطبخ، لم أعتد منه سوى متعلقات صناعة فنجان من القهوة، هذه المرة كان علي أن اتعرف على مكوناته المختلفة المطلوبة لصناعة وجبة غذائية، لم أفكر قط في «طبخة» من العهد القديم بتعقيداتها ومتاهة الطرق المؤدية لصناعتها، بل بحثت عن واحدة يسهل المضي في كنفها، لا تتطلب خبرة واسعة أو جهد مضني، كم هو شاق أن تقتل الوقت في تفاصيل متعددة لا يتمخض عنها سوى وجبة غذائية، وقد تنسى شيئاً يفسد عليك صنيعك وتجني خيبة أمل تجدها في عيون من يشاركك المائدة، حتى وان أغرقك بكلمات الثناء والمديح، حقيقة الأمر لم أهتم بجودة المنتج بقدر ما استوقفني الوقت الذي تمضيه المرأة العربية في أروقة مطبخها، وكم هو مفيد أن نترجم تفهمنا لمعاناتها بقليل من الكلمات حتى وان كانت من باب المجاملة ليس الا، مؤكد أن تذمري من واجبات هذا اليوم مختلفة، تفوق بكثير ما اعتدت عليه من تأفف وتذمر.
لن نقف على حقيقة العمل الذي ينجزه البعض الا من خلال ممارسة العمل ذاته، وكم تهون شكوانا اذا ما نظرنا لشكوى الآخرين، والمدينة الفاضلة التي تداعب خيالنا لا وجود لها على كوكبنا، والخروج من معاناتنا لا يأتي من بوابة التذمر، بل لا نجافي الحقيقة اذا ما قلنا انه يشدد الخناق علينا، ولعل هذا ما ذهب اليه العلماء فيما بات يعرف بعلم الطاقة، فنحن نجيد توليد الطاقة السلبية التي يبدع التذمر في حمل شحناتها، ولا نعمل على خلق الايجابي منها، فالعقل الباطني لدينا ما زال يرفض أن نخرج من التذمر الذي يعيش فينا ونهوى العيش فيه.