إن معطيات الواقع الدولي والإقليمي والوطني، يشير أن لا حل عادل قائم في ظل الظروف الراهنة، والقدرة على التعامل مع هذه القاعدة، يستوجب تبصرا فلسطينيا يعيد النظر في الإستراتيجية الكفاحية. ضمن رؤية ترتكز على نضال يعتمد على نفس طويل، بمعنى العمل على تغيير الوسائل النضالية التقليدية المتبعة، والتعاطي مع قضية الكفاح الفلسطيني بدراسة واعية للأدوات النضالية، وصياغة إجراءات تعتني بتعزيز قدرة الفلسطينيين على البقاء والصمود، في معركة طويلة، دون أن تفسد هذه الإجراءات عمل جاد ومتماسك، لبناء المؤسسات المجتمعية والسياسية والهياكل التنموية، وعدم إقحامها في عمليات التأطير والاستقطاب الحزبي الحاد الذي يعيشه المجتمع الفلسطيني حاليا.
إن البرنامج المقترح لعملية نضالية طويلة الأمد، تستدعي الانتباه للمخاطر التي يفرضها العدو ضمن خطوات إستراتيجية متكاملة، تقلب الأوضاع إلى مستوى يستحيل معه الاستجابة للحد الأدنى من المطالب الوطنية الفلسطينية.
إن أهم هذه الخطوات العملية التي يقوم بها العدو الإسرائيلي، هي عمليات استراتيجيه وليست إجرائية تكتيكية، على رأسها التغيير القائم في توسيع المستوطنات الإسرائيلية التي تحقق تغييرات جذرية على المستوى الجيوسياسي، وإجراءات تجريد القدس من هويتها السياسية والثقافية والتاريخية.
هذه الإجراءات، التي تستهدف فرض اليد الإسرائيلية، على مفاتيح النهوض والتحمل والصمود الفلسطيني، من خلال تكريس استغلال إسرائيلي للاقتصاد الفلسطيني وبنيته الأمنية والسياسية.
إن مراجعة التجربة الوطنية الفلسطينية الآن، باتت مسالة حتمية وعاجلة، وأصبح تجاوز الواقع الوطني الراهن في الفترة الفلسطينية الحرجة مسألة عبثية، وترتد بنتائجها سلبا على عوامل التعزيز والارتقاء بمستوى الأداء الكفاحي في عملية الصراع مع الدولة العبرية.
إن الدعوة إلى تبني استراتيجيات نضالية خلاقة، تعني بالدرجة الأولى، إعادة التفكير بعملية البناء الذاتي. الذي يعني تعديل أو تغيير -إن لزم الأمر- كل مستوجبات النكوص والتراجع، والقيام بعملية تنمية في النظام السياسي. على مستوى الخطاب السياسي والإعلامي في الشأن الحزبي والسياسي.
لقد أصبح من الضروري العمل ضمن عملية متكاملة تراكمية. تتوزع فيها ادوار القوى السياسية الفلسطينية ضمن حدود الاتفاق العام، وما تعنيه محاولة تكرار تجربة النظم الشمولية أو المتخلفة في الساحة الفلسطينية،حيث ستتفاقم المضاعفات لتدمير الحصانة الفلسطينية الذاتية، خاصة أن مجال العمل السياسي الفلسطيني لم يزل يتحرك في نطاق كيان لم يصل إلى مستوى الدولة، وهذا الكيان لا يحتمل تهديد مباشر وفاعل من العدو الإسرائيلي المباشر، وفي نفس الوقت انهيارا داخليا يسببه العجز عن الاتفاق أو التوافق الداخلي.
إن المرحلة الحالية لا تقتضي إنهاء الصراع. بقدر ما تتطلب حسن الإدارة فيه، فإنهاء الصراع الآن سيملي على الفلسطينيين اشتراطات. لن تمكنهم من استعادة الحدود الدنيا من حقوقهم السياسية والتاريخية. والاستحقاقات الموعودة لن تكن قادرة على الاستجابة لاحتياجات ومطاليب تاريخية عادلة. على رأسها عودة اللاجئين والقدس والحدود والمستوطنات والسيادة الوطنية.
وإذا كان المنطقي إدارة منظمة وواعية للصراع، فهذا يعني بالضرورة إنضاج مسئول للخطاب السياسي الفلسطيني، وتحديد احتياجات الصمود للناس، وتكريس جهد عملي في هذا الشأن، بقدر الجهد المبذول في عملية المواجهة والنضال مع الاحتلال الإسرائيلي.
أن الرؤية السياسية الفلسطينية الحالية، المنقسمة بين خطاب يدعو لإنهاء المعركة بنضال مسلح حالم، وبين حسم الصراع في نطاق عملية سياسية تفاوضية، يعني أن خيارات العمل السياسي الفلسطيني يتجه نحو مزيد من الإخفاق والتراجع، والخسارة للاتجاهين اللذين يقسمان المجتمع الفلسطيني أفقيا وعموديا.
إن الخيارات التي يمكنها أن تحقق نتائج أكثر خيرا لفلسطين الأرض والإنسان، تعني قدرة الإسهام السياسي الوطني في تبني عمل نضالي بعينين، واحدة سياسية، والأخرى عسكرية، ولكن الشرط الأول أن يكون لهذا العمل، قلب يبلور حيويته من فكر استراتيجي منظم، ويفتح المجال للناس في الثقة بانتصارهم في النهاية.
إن هذه الفهم يعني عملية متواصلة من تطوير الذات الفلسطينية. بدء من مفهوم المواطنة وحقوقها، وبناء المؤسسات التعليمية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي تكفل استثمار الطاقات والكفاءات، والعمل بمبدأ المساواة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، والانتصار للوطن، لا للحزب السياسي.
إن تكلس الحراك في بنى العمل السياسي الفلسطيني، وغلبة الطابع الحزبي والفصائلي، وضعف البنى المؤسسية والعلاقات الديمقراطية، يجعل الحاجة ملحة لعملية نقد عميقة وجادة.
إن اغلب سيناريوهات الحل المطروحة حاليا، تشتق أفكارها وإمكانية فرضها على الفلسطينيين بحكم النظر في واقع طرفي الصراع الفلسطيني العربي من جهة، والإسرائيلي الأمريكي من جهة أخرى، ويجب الفهم –وفقا لذلك- بعدم وجود مبرر إسرائيلي لتقديم تنازلات، طالما تضمن على الدوام تفوقا مستمرا لإمكانياتها، وتظل فرصها في تنفيذ مخططاتها هو الواقع المتحقق دوما.
ووفقا لفهم ميزان القوى الموجود، بات من المؤكد أن كافة هذه الخيارات لا تعتمد على مبدأ الحق والتاريخ فحسب، بل تنتظم تفاصيلها وفقا للظروف الراهنة وحقائق الأمور على ارض الواقع.
وفي هذا السياق، يجب التأكيد على أن الانهماك في عملية بناء داخلي على قاعدة ومبدأ العمل المؤسساتي، يجب ألا تستخدم كمبرر لعملية تطبيع مع المؤسسة الصهيونية، وإبقاء المنطقة تحت تأثير معركة لم تنته، وهو ما يستدعي إعادة النظر في علاقاتنا العربية نحو تعميقها وتعزيزها، إن المرحلة تتطلب أن يبدأ الفلسطينيون ولو مرة واحدة، في توجيه الموقف العربي وإرشاده نحو الهدف الفلسطيني الآني والاستراتيجي، والقيام بهذه المهمة يعني تحديد المطالب الفلسطينية من الدول العربية بوضوح، وبدون الحاجة إلى الاشتباك مع أي دولة، ولكن البرنامج الفلسطيني يجب أن يعرض على هذه الدول بشكل لا لبس فيه. وبعدها.. ليتحمل كل طرف مسئوليته القومية والوطنية والأخلاقية.
إن القضية الفلسطينية تتطلب ألا يغلق الصراع في ظل موازين القوى الحالية، وإذا كان هناك حاجة لعملية تسوية سياسية فان هناك شروطا فلسطينية لا يسمح بتخفيض سقفها على الإطلاق، خاصة قضية اللاجئين والقدس والمستوطنات والحدود، وهي القضايا التي لم تسلم إسرائيل بها حتى الآن.
فإذا كانت هذه هي مطالبنا في الحد الأدنى من برنامجنا السياسي، الذي بدأ مطالبا بكل فلسطين من البحر إلى النهر، فلا يجوز النزول بالحد الأدنى إلى حد أدنى آخر، لأنا لن نحصل بعد ذلك على أية استحقاقات ذات معنى أو قيمة أو رمزية سيادية.
د.عبدربه العنزي
أستاذ العلوم السياسية- جامعة الأزهر- غزة