في الذكرى التاسعة والأربعين لانطلاقة "فتح"، انطلاقة الثورة الفلسطينيّة، أحاول أن اكتب حول ما أسمّيه "مأزق فتح"، في ظل استمرار وتكثيف الجهود الأميركيّة الرامية إلى التوصل إلى حل تصفوي جديد للقضيّة الفلسطينيّة، من خلال توظيف الضعف والانقسام الفلسطيني وتردي الوضع العربي.
منذ توقيع "اتفاق أوسلو" بقيوده المجحفة والتزاماته السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة، وبعد قيام السلطة واندماج "فتح" فيها، أصبحت غالبيّة أعضاء "فتح" على كل المستويات موظفين في الوزارات والأجهزة الأمنيّة والرئاسة والسفارات؛ الأمر الذي غيّر طابع "قتح" من حركة وطنيّة ثوريّة إلى جزء من سلطة لا تملك السلطة كونها قامت تحت الاحتلال، ما جعلها رهينة السلطة.
وبعد اتضاح أن طريق "أوسلو"، طريق المفاوضات الثنائيّة برعاية أميركيّة ومن دون أوراق ضغط وقوة لن يقود - كما كان متوهمًا - إلى إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينيّة، حتى بعد تقديم الاعتراف الذهبي بحق إسرائيل في الوجود، ووقف المقاومة، بل على العكس، فقد فصّل "أوسلو" القضيّة عن الشعب والأرض، وتقسيم القضية إلى قضايا، والشعب إلى شعوب، والأرض إلى (أ) و(ب) و(ج)، وإلى 48 و67 وشتات، وإلى ضفة وغزة، وقدس وضفة، والمرحلة إلى مراحل انتقاليّة ونهائيّة.
وكان من نتائج "أوسلو" قبول فلسطيني بحل متفق عليه لقضيّة اللاجئين، والموافقة على مبدأ "تبادل الأراضي"، وضم الكتل الاستيطانيّة لإسرائيل في أي حل نهائي.
حتى محاولات مقايضة الدولة بحق العودة، أو الفصل ما بين الدولة والعودة، وإثبات الجدارة وبناء المؤسسات، وإثبات حسن النوايا من خلال تطبيق الالتزامات من جانب واحد؛ كلها فشلت، ما جعل "فتح" تعيش في مأزق يتفاقم أكثر وأكثر ويومًا بعد يوم، في ظل استمرار وتعميق الاحتلال، وتوسيع الاستيطان، والجدار، وتقطيع الأوصال، والعدوان، والحصار، والانقسام، وتهميش القضيّة الفلسطينيّة، وتهويد القدس وأسرلتها؛ الأمر الذي خلق أمرَ واقعٍ احتلاليًّا يجعل الحل الإسرائيلي بصيغه المتعددة هو الحل الوحيد الممكن والمطروح عمليًّا.
تأسيسًا على ما سبق، أصبحت "فتح" رهينة لعمليّة سياسيّة سمّيت زورًا وبهتانًا "عمليّة سلام"، في حين أنها عمليّة من دون سلام. عمليّة تهدف إلى شراء الوقت اللازم لإسرائيل لاستكمال تطبيق مخططاتها التي تجعل السلام مستحيلًا، وتجعل "السلام" الوحيد القابل للتطبيق هو السلام الإسرائيلي.
فـ"فتح" إذا استمرت في هذة العمليّة ستخسر روحها ومبرر وجودها، وإذا خرجت منها بصورة فوضويّة ارتجاليّة ستخسر، وقد تتمزق: بين ما كانت وحاولت تحقيقه أيام النهوض الوطني، وبين ما أصبحت تمثله في ظل ظهور وتضخم المصالح الفرديّة والفئويّة على هامش السلطة والمصالح التي نمت فيها وبسببها.
هذا الواقع يجعل "فتح" التي تمثل أكثر من غيرها التيار الوطني العام والمركزي، والتي لا تضم فقط المتسلقيين والمستفيدين والفاسدين، وإنما مئات الآلاف من الفقراء والبسطاء والمناضلين؛ مطالبةً بإجراء مراجعة تاريخيّة للتجارب التي خاضتها وقادت فيها مسيرة الكفاح الفلسطيني في مراحل صعوده وهبوطه.
لقد شهدت مسيرة "فتح" لحظات مضيئة، فيكفيها أنها قادت الثورة الفلسطينيّة التي نقلت القضيّة الفلسطينيّة بعد النكبة وحولتها من قضيّة إنسانيّة (لاجئين) إلى قضيّة تحرر وطني، لا تحل إلا بعودة اللاجئين وتعويضهم عن التشريد والمعاناة، وتمكين الشعب من تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس.
ويكفي "فتح" كذلك أنها حوّلت منظمة التحرير من إطار فوقي بيروقراطي يمثل جزءًا من النظام العربي الرسمي إلى ممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، حاز على اعتراف ودعم من الشرعيات الفلسطينيّة والعربيّة والدوليّة، إلى أن قزّمت المنظمة بعد "أوسلو"، وأصبحت هيكلًا بلا روح ولا فعاليّة، حيث لا يناسب المرحلة الجديدة بقاء المنظمة التي تمثل الشعب الفلسطيني كله وحقوقه كافة، فتضخمت السلطة التي تمثل الضفة الغربيّة وقطاع غزة على حساب المنظمة، وأصبحت الأخيرة مجرد بند صغير في موازنة الأولى.
"فتح" الآن مطالبة بالاختيار مع حلول لحظة الحقيقة، فلا يمكن استمرار الوضع الراهن إلى الأبد، خصوصًا بعد اتضاح أن السلطة يراد لها أن تكون بلا سلطة حتى بعد أن تأخذ اسم الدولة، وبعد أن اتضح أن الاحتلال أصبح رابحًا لإسرائيل التي تتمتع بمزاياه والمجتمع الدولي يدفع التكاليف. فلم يعد هناك أي شرعيّة للعمليّة السياسيّة، التي ظهر بالدليل القاطع أنها لا يمكن أن تقود إلى إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينيّة على حدود 67.
على "فتح" أن تختار بين: خيار مواصلة مسار "أوسلو" والمفاوضات الثنائيّة برعاية أميركيّة انفراديّة، وعليها في هذه الحالة أن تقبل بما يعرض على الفلسطينيين من حلول مهما جاءت تنتقص من الحقوق الفلسطينيّة، بما في ذلك "اتفاق الإطار" الذي يحاول وزير الخارجيّة الأميركي جون كيري إقناع الطرفين بالتوصل إليه، وهو يمثل مرجعيّة جديدة يراد لها أن تتضمن وأن توثق كل التنازلات السابقة، يضاف إليها تنازلات جديدة، مثل الاعتراف بإسرائيل كدولة "يهوديّة". وتضمن "فتح" بذلك بقاءها لاعبًا سياسيًا ومدعومًا عربيًا ودوليًا، خصوصًا أميركيًا وإسرائيليًا، ولكن على حساب تصفية القضيّة، ولكنها في هذه الحالة لن يكون لها علاقة بما جسّدته منذ تأسيسها وكونها "أول الرصاص وأول الحجارة".
إن خطورة التوصل إلى اتفاق ينتقص من الحقوق الوطنيّة الفلسطينيّة تتضاعف، بسبب أنه لن يمر من دون مشاركة وغطاء عربي، بما يفتح الباب على مصراعيه لتطبيع عربي، وخصوصًا خليجي، مع إسرائيل من أجل التحالف في مواجهة الخطر الإيراني المزعوم.
والخيار الثاني يكون بالجرأة على اتخاذ قرار بتغيير المسار كليًا، وما يقتضيه ذلك من تغيير السياسات والممارسات، وربما القيادات، وقواعد اللعبة، ولكن في سياق الاستفادة من دروس وعِبَرِ المرحلة السابقة، والبناء على الإيجابيات والإنجازات التي لا تزال قائمة رغم كل التراجع الذي حدث، خصوصًا بعد "أوسلو". وأهم هذه الإنجازات أن القضيّة الفلسطينيّة بالرغم من تهميشها وتراجعها لا تزال حيّة، ولا يزال الشعب الفلسطيني مصممًا على الكفاح لتجسيدها، كما يظهر ذلك من خلال كل أشكال الصمود والبطولة والمقاومة الفرديّة والعامة، وأشكال التضامن، وإحياء القضيّة والهويّة الوطنيّة ثقافيًا من خلال الأدب والفن والسينما والتراث. كما أن العالم لا يزال يعترف بالمنظمة واعترف بالدولة الفسطينيّة ولو كعضو "مراقب"، وهناك حركة تضامن عالمي لا تزال مؤثرة وتتنامى، ويمكن أن تتصاعد بشكل هائل لو تم تغيير المسار الذي حول الصراع من صراع بين شعب مشرد من أرضه والاحتلال الاستعماري الإجلائي العنصري، إلى نزاع حول الحدود وطبيعة السلام والإرهاب والقوى المناهضة للإرهاب.
الواقع صعب جدًا، وتغيير المسار صعب كذلك، ولكنه بات أمرًا ملحًّا وضرورة وطنيّة كلما تأخر تعرضت القضيّة الفلسطينيّة إلى المزيد من التدهور. إن تكلفة تغيير المسار مهما بلغت والوقت اللازم لتحقيق الأهداف والحقوق الوطنيّة أقل بكثير من تكلفة استمرار مسار "أوسلو" والزمن الذي مضى على بدء هذا المسار، والممكن أن ينقضي والفلسطينيون تحت قبضته.
المهم أن تتوفر الرؤية القادرة على الاستجابة للتحديات والمخاطر التي تواجه القضيّة الفلسطينيّة، والقناعة بضرورة تغيير المسار، والإرادة اللازمة لذلك، وبعدها يمكن أن يتم ذلك الأمر بالتدريج ومن دون مغامرة ولا قفز عن حقائق الوضع السياسي والتزاماته.