دَخَلت نكبة مخيم اليرموك وأهله عامها الثاني، نَكبة ثقيلة، قاسية، صعبة، وآليمة جداً، لشعب تاه من جديد في تغريبة مرة أشدُ مرارةً من تغريبة العام 1948، فقد بات فلسطينيو سوريا يرزحون تحت وطأة تلك التغريبة، مع استمرارها واستمرار مآسيها من جهة، وإستمرار التدمير والقتل من جهة ثانية. فيما غدارت أعدادُ كبيرة منهم الأرض السورية باتجاه أصقاع المنافي الجديدة في دياسبورا الشتات على امتداد المعمورة.
فقد طال التدمير الكامل عدة مربعات من المخيم ومنها المدخل الرئيسي له، وقد سويت مُعظم أبنيته بالأرض، ومنها بناء عائلتنا الواقع في مداخل مخيم اليرموك، وتحديداً في المنطقة التي يطلق عليها (حارة الفدائية) وهو اسمٌ على مُسمى له علاقة بما قدمتهُ تلك الحارة الواقعة على المدخل الرئيسي من مخيم اليرموك من شُهداء في مسار العملية الكفاحية الوطنية الفلسطينية خصوصاً منذ فجر الانطلاقة الأولى للثورة المعاصرة، حيث سقط من تلك الحارة القوافل الأولى من شهداء مختلف الفصائل من حركة فتح إلى الجبهة الشعبية ومابينهما.
دارنا المنكووووووووبة
دارنا بطوابقها الأربعة (وأقصد دار عائلتنا) سويت بالأرض تماماً قبل عشرة أيام، وأنا هنا لا أتكلم عن أمرٌ شخصي، ولا أبكي ولا أندب بيتاً ومنزلاً، ولاخسارة كبيرة قصمت ظهر أسرتي وعوائل إخوتي ودمرت مشوار طويل من العناء والكد والتعب، وذهبت بذكرياتي وبكل حبة عرق سالت على جبيني وجبين إخوتي في بناء منزلنا الذي حفرنا طريقنا من أجل إنجازه بأظافرنا على الصخر الصلد والقاسي، لكن أحترق وأذوب آلماً، على مآسي شعبنا منذ عام 1948، كما أحتَرِقُ آلماً على شعبٍ مازال سيفُ الُظلمِ والتنكيل والتبشيع والشيطنة يُلاحقُهُ، وظُلمُ ذوي القُربى أشدُ مضاضةً، فقد ظُلم شعبنا مراراً، وكان على الدوام الضِلعُ الضعيف في مُعادلة مُعقدة ومُنحطَة في الوقت نفسه.
لقد ذهب مع دمار دارنا بطوابقها الأربعة، تاريخ كامل لدارٍ كانت مفتوحة لكل كوادر وأبناء الفصائل والقوى العاملة في العمل السياسي والوطني في مخيم اليرموك. كما طار معها أرشيف كامل ومكتبة شخصية. ففي دراما المشهد المأساوي إياه، ضاعت كتبي، ضاعت مئات السيديهات وآلاف الصور والوثائق، وطارت معها مئات التسجيلات والمقابلات مع رعيل كامل من المناضلين الفلسطينيين منهم على سبيل المثال وليس الحصر مقابلات مسجلة مع الراحل أحمد الشقيري مؤسس منظمة التحرير الفلسطينية، أجريت عام 1979 قبيل وفاته بوقت قصير عندما كنت طالباً جامعياً في سنواتي الأولى. ودمرت مجلدات فلسطين الثورة التي كنت أحتفظ بها منذ صدورها وغيرها من المطبوعات الفلسطينية، وضاعت معها مجلدات مجلة فتح وأعدادها الأولى منذ العام 1965، ومئات الملصقات القديمة ومنها المصلقات بقلم الفحم، والصادرة سنوات الكفاح الفلسطيني المعاصر خصوصاً سنوات البدايات الأولى سنوات الجمر الفلسطيني ومنها صور قوافل الشهداء الأولى وملصقاتهم، وضاع معها تاريخ شخصي ووطني، مليء ومُتخم بوثائق فلسطينية تكاد توازي موجودات كل ما هو مكتنز لدى الجهات الفلسطينية العاملة في المضمار الثقافي والتوثيقي والمعرفي.
دور القوى والفصائل
نكبة كبرى يعيشها مخيم اليرموك، أكبر التجمعات الفلسطينية خارج فلسطين على الإطلاق، عاصمة اللاجئين والشتات والعنوان الساطع لحق العودة، مخيم أبناء حيفا وصفد والناصرة وعكا وطبرية والجليل، فماذا نحن فاعلون من أجله، سؤال برسم الإجابة ينتظر كل القوى الفلسطينية من أجل إنقاذ مخيم اليرموك ووقف مسلسل الدمار والتدمير الذي يطاله..؟
نكبة مخيم اليرموك دَخَلت عامها الثاني، فيما فصائلنا الفلسطينية من أقصاها لأقصاها مازالت عاجزة عن القيام بدورها المطلوب من أجل إنقاذ مخيم اليرموك وأهله من أهوال الواقع الأليم الذي يرزحون تحته. فكل الاجتماعات اليومية وكل الندءات الموجهة لمختلف الأطراف لم تعط نتيجة حتى الآن، فيما يموت الناس يومياً من الجوع والبرد ومن التشتت والتشرد، وأن القَدَرُ كَتَبَ علينا أن تُلاحقنا الكوارث والنكبات في الداخل وفي بلدان الطوق والشتات المحيط بفلسطين.
المُشكلة الكبرى في هذا الإطار تَنبُعُ من غياب التوافق الوطني الفلسطيني على الحلول العملية بشأن أزمة مخيم اليرموك، فما زالت الاجتهادات والتضاربات قائمة حتى اللحظة، بالرغم من التوافق اللفظي بين مختلف الفصائل على ضرورة تحييد الحالة الفلسطينية داخل معمعان الأزمة السورية. لكن الحلول العملية أو التوافقات العملية المطلوبة مازالت هي الغائب الأكبر، وهو أمرٌ ساهم بتعطيل الجهود الإنقاذية التي جرت وتجري من أجل إنهاء مأساة مخيم اليرموك.
ومع ذلك فإن الآمال مازالت قائمة لجهة استكمال ماتم إنجازه من خطوات متواضعة في الاجتماعات الأخيرة لعموم الفصائل الفلسطينية العاملة في الساحة السورية وعددها (15) فصيلٍ فلسطيني، حيث التأمت تلك الاجتماعات في مقر المجلس الوطني الفلسطيني بدمشق وتَمَخَضَ عنها بلورة الهيئة المعنية بمتابعة الأمور على الأرض في مخيم اليرموك، وهي هيئة مُشكلة من عموم القوى والفصائل ومعها بعض المستقلين من شخصيات المخيم، وقد أتمت بالفعل اتصالاتها مع جميع الأطراف المعنية بما فيها المجموعات العسكرية الموجودة داخل اليرموك، وقد تتمخض عن تلك الاتصالات نتائج إيجابية خلال فترة قريبة جداً، وذلك من أجل إسدال الستار على مأساة مخيم اليرموك وأهله المشردين أو المحاصرين داخل حدوده الإدارية وقد تقطعت أو كادت تتقطع بهم سبل الحياة.
نقول وفي صرخة حق، ومحبة، وتأخي حقيقي ومتين، ودون أحقاد، ودون خلفيات، ولكل الأطراف: ارحموا شعبنا، اتركوه في مصائبه، اتركوا مخيم اليرموك، نحن كفلسطينيين، بوصلتنا وبندقيتنا تتجه نحو فلسطين، هي بوصلتنا التي يجب أن لاتضل طريقها وأن لاتعيد تكرار مآس سبق وأن دُفِعَ الفلسطينيون أثمانها الباهظة في أكثر من مكان. كما ليس هناك قضية عادلة في سوريا أو غيرها من بلداننا العربية إذا كان ثَمَنَها دمٌ فلسطينيٌّ يُراق، وشعبٌ لاجئ يُشرَّد في تغريبة ونكبة جديدة لاندري أين ستكون خواتيمها.
إن من استهدف أو يستهدف مخيم اليرموك، يستهدف الوطنية الفلسطينية، ويستهدف في الوقت نفسه البعد العربي والإسلامي الحقيقي والفعلي لقضية فلسطين، فأتركوا مخيم اليرموك وأهله، فإن أجزل وأثمن خدمة وهدية تقدم للعدو الصهيوني تَكمُنُ في التطاحن والصراع على جسد الشعب الفلسطيني وفي تدمير عنوان العودة بتدمير مخيم اليرموك.
مخيم اليرموك، عنوان الشتات وحق العودة، يصرخ ويطالب الجميع من أجل إنقاذه، وإنقاذ فلسطينيي سوريا من الأزمة الكبرى التي تعيشها كل أسرة فلسطينية لاجئة على أرض سوريا منذ عام النكبة.
بقلم علي بدوان
صحيفة الوطن القطرية
الأربعاء 8/1/2014