عصر الظلمات والقرون الوسطى لا يزال معروفا لدى أصحاب فكر التنوير بأشكاله المختلفه، لكن يحاول بعض مفكري الأسلمة السياسية أن يعزوا ظهور العلمانية في أوروبا للتصرفات الكنسيه وما آلت إليه أحوال الناس بسبب من فساد الكهنة باسماءهم المختلفه، وصكوك الغفران كانت أحد تجليات ذاك العصر، لكنهم ينسوا أن عصر كهنة الإله وصلوا لدرجات من التحكم الإقتصادي والسياسي في بيئة تخلف إجتماعي وثقافي جعلتهم يحاكمون العالم الكاثوليكي المتدين "جاليلو" ويحرقون كل من يحاول الخروج على فكرهم وثقافتهم الدينية السائده، فحروبهم المقدسه التي سميت ب "الصليبيه" وتحت عناوين دينية كهنوتيه جوهرها توسيع ممتلكات الكنيسه وبالذات على الأراضي المقدسه، بل إن البعض منهم كان يبحث عن أصوله كدين بإعتبار أن ما سمي ب "الهيكل المقدس" موجود فيها، وحديثا ثبت أن ما يسموه بالهيكل لم يكن سوى معبد متواضع من المعابد المنتشره في بلاد الشام لعبادة آلهة الخصب الكنعانية في تلك الفترة، بل وجد شبيه له في أكثر من عشرين مدينه في منطقة بلاد الشام وفلسطين كمدن "حاصور" و "جازور" و "مجدو" مثلا.
لست في معرض الحديث عن حكايات ألف ليلة وليلة "التوراتية" والتي حُرّرت بطريقه أذهلت العالم قرون عديده حتى تبين لاحقا أن قصة الملك "سليمان" مثلاً، ليست سوى تعبير عن شيخ قبيله متواضع وكل حكاياته هي ضمن مفاهيم القصة "الأسطورة"...لكني أسوق الأمثلة أعلاه لتبيان حقيقة خلط المفاهيم المتوارثة الشعبية وجعلها جزء من الدين والعقيده لدرجة أنها تصبح فكرة أيديولوجيه بإمتياز لدى القائمين عليها وما يتم عكسه بعد ذلك على برامج سياسيه وثقافية تؤثر بشكل صاعق على الفرد والمجموعة السياسية ولاحقاً على المجتمع ككل...يقال أن الطبيعة الجغرافية والمناخية لبلاد الشام لم تسمح قديما بتشكيل وحدة سياسية وإقتصادية تؤدي لخلق إمبراطورية موحدة فيها كما حدث في بلاد الرافدين "آشور" و "بابل"، أو كما حدث في مصر والإمبراطورية المصرية أو بلاد فارس والحثيين "الأموريين"، لذلك ظهرت في سوريا الكبرى ممالك وإمارات متعددة وفي غالبيتها "كنعانية" و "آرامية"، بل هذه الممالك كان جزء منها يتبع إحدى الإمبراطوريات وتحت حمايتها، فأغلب الممالك الفلسطينية كانت تحت الحماية المصرية وجزء من أمنها القومي، خاصة في فترة الملك المصري "تحمتس الثالث" في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وكانت مقاطعة "يهوذا" في القرن الثامن قبل الميلاد مقاطعة فارسية، فالملك الفارسي "قورش" هو من حرر اليهوذيين من السبي "البابلي" وأعادهم إلى "أورشليم"، ولحظتها بدأ الكهنة في كتابة قصصهم وفي خلق إثنية ودين سمي لاحقا "اليهودية"، فالتوراة تتحدث عما قبل السبي "البابلي" بصفة "الإسرائيلي" و"العبري" ولم تذكر شيء عن "اليهوديه" إلا بعد ذلك.
الحركات الدينية الإسلامية السياسية ليست بعيده عن هذا الجوهر، رغم محاولات البعض إلباسها صفة تنويرية، بالحديث عن مفهوم "الخلافة" كشيء عاطفي وحنيني للعودة للإمبراطورية العربية-الإسلامية، فهم لم يستطيعوا أن يعيشوا الحاضر وأن يخططوا للمستقبل، فبحثوا عن الماضي لإعادة بناءه ولكن بطريقه تجلب الماضي بكل مآسيه لحاضر مختلف في تكوينه وجوهره، فأسلوب الحكم العائلي الوراثي الذي كان سائداً بعد الخلافة "الراشدية"، والذي إمتد لاحقا ليشمل مملكات حديثة التكوين وجمهوريات، أثبت فشله ولا يتوافق مع المفهوم المدني والسياسي للدولة الحديثه، والأمثلة واضحه، فعجلة التقدم والتطور توقفت في كثير من البلدان العربية بسبب طبيعة هذه الأنظمة التي بحثت وتبحث عن حماية دولية وإقليمية مقابل بقاءها في الحكم، بل أصبحت مقدرات هذه الدول مرهونه لدى الإمبراطوريات الكبيره والصغيره حولها، وهذا يذكرنا بطبيعة الممالك السابقة التي عَجّت بها بلاد المشرق العربي...وما محاولات "داعش" وأخواتها من "جبهة النصرة" و "أحرار الشام" و "الجبهة الإسلامية" أيضا، إلا نماذج جديدة لمخطط قديم ونموذج قديم من حيث شكل الحكم والدولة ومن حيث العنف الديني الذي يسمح بالقتل بإسم "الشريعه"، وبالتأكيد المقصود هنا "شريعة" هذه الجماعات وليس "الشريعه" الإسلامية.
الدولة الحديثه هي دولة مدنية تكفل حقوق مواطنيها جميعا بدون إستثناء، وتؤسس لوحدة جغرافية وإقتصادية وسياسية قادرة على إستيعاب الجميع، ويكون عقدها الإجتماعي "الدستور" ناظم لمواطنيها وبما يحقق التوافق الأدنى بين الجميع، بحيث تكفل لأي أقلية مهما كانت طبيعتها حقوقها كاملة، وتساوي بين جميع مواطنيها وفقا للقانون، والدولة الدينية محكومة بنظرة أيديولوجية محضةٍ، تضيق على جزء يدينُ بدينٍ غير دينها وتحاصر جزءاً آخر يدينُ بدينها لكنه يبحث عن مدنية الدولة وعن علمنة السياسه لا علمنة المجتمع...إن البحث عن الماضي وجلبه للحاضر وصفه عشعشت في رؤوس الكثيريين بسبب فشل المشروع القومي العربي كمفهوم وحدوي ولو حتى بالطريقه "الأوروبية" من جهة، ومن جهة أخرى فشل الدول الوطنية في المحافظة على مدنية الدولة والمساواة والعدالة والحرية بين المواطنيين وفي المجتمع، بل تحويلها أحيانا لوراثية بطريقة مقيته، ولكن ذلك لا يعطي مبرراً للتعاطي مع أفكار مُتطرفه في البحث عن البديل، بل بالعمل على إنهاض المشروع العربي القومي وفقا للمعطيات الحديثه ووفقا لمفهوم الدولة الحديثه، وما يجري في "مصر" العظيمه قد تكون البداية، خاصة أن التاريخ العميق للدولة المصرية تاريخيا يسمح لها بأن تؤسس لذلك بعكس بلاد المشرق العربي، وهنا يكمن الرهان الحقيقي والفعلي على مرحلة جديدة للعرب شعوبا ودول.
الجماعات الدينية السياسية المختلفه لم تستطع وخلال الفترة الماضية من خلق أمان وطمأنينه لأي مجتمع ظهرت فيه، وهذا بدا واضحا في البلدان التي حدث فيها حراك شعبي أحيانا، تَفجرَ وأصبح فوضى نتيجة التدخلات الخارجية التآمرية "سوريا، ليبيا، اليمن" وثورة أحيانا أخرى "تونس، مصر"، بل إن هذه الجماعات كشفت عن وجهها الحقيقي وبدأت تقود المنطقة نحو فِتن دينية ومذهبية، وبدأت تؤسس إمارات وأُمراء (بل لدينا أمير مؤمنيين طالباني) وتقوم بمجازر بإسم "شريعتها" الدينية، بحيث اصبحت الغالبية العظمى من مكونات المجتمع تعاني من وجودها، بل إن هذا الوجود يترافق مع الفوضى والقتل وقمع الحريات وبإسم الشرعية "الإلهية"...إن الشرعية على الأرض هي للإنسان بغض النظر عن جنسه ولونه وعرقه ودينه، وإن الثواب والعقاب هو لله وحده بالمفهوم الإيماني وليس المجتمعي السياسي الذي ثوابه وعقابه هو القانون المدني والحكم بين مواطنيه هو "الدستور" المتوافق عليه والذي يحفظ حقوق الجميع، وما تلك الوصفات التي تظهر بين ظهرانينا إلا محاولة إستعمارية ورجعية جديدة للإجهاز على اي مشروع وطني أو قومي، وخلق كيانات سياسية وإمارات تتغطى بالدين متناحرة فيما بينها وتساعد غيرها على البقاء والسيطره بلا منازع، وهذا المشروع مكانه "المزبلة" ولن يكون له اي مستقبل، رغم كل محاولات الإستعمار وإعلامه وأمواله وسلاحه إلباسه لباس الحرية، فلا يزال في هذه الأمة نُخب وقيادات وجماهير حية وقادره على هزيمة هذه المؤامرات، ولا يزال لدينا "سيسي" ورجال حوله صَدقوا وسوف يَصدقون، فالأمل في "مصر" إن خَبت خَبَونا، وإن نهضت نهضنا.