لم تدفعه الشمس للابتعاد عن عربته الصغيرة التي يضع عليها القليل من "البندورة"، ملامح بشرته صبغتها الشمس بلون داكن، مغاير للون البرونزي الذي يدفع الغرب للقدوم إلى منطقتنا والاسترخاء تحت اشعة الشمس لساعات طويلة طمعاً في الوصول إليه، توحي سمرة بشرته أن الشمس صادقته رغماً عن أنفه، ملامحه تؤكد على أنه ما زال في النصف الأول من العقد الثاني من العمر، طبقاً للمقاييس الغربية ما زال في مرحلة الطفولة، تلك المرحلة الذي يكرس الغرب جل طاقاته لخدمة منتسبيها، وطبقاً للمقاييس الشرقية التي تفرضها الظروف القهرية وتترك بصماتها على الشكل والمضمون فهو في المرحلة المبكرة للرجولة، وعادة ما تنفرج أساريرنا عند سماعنا ما يشير إلى أن الطفل لدينا نفض عن كاهله الطفولة ودخل مرحلة الرجولة مبكراً، كأن ثقافتنا لا تطيق للطفل أن ينعم بالطفولة ومعانيها.
خشونة الحياة تركت آثارها على ملامحه، لكنها لم تتمكن من وأد إبتسامته البريئة، كأنه يرغب في الابقاء على دلالتها بأن ظروف الحياة القهرية لم تتمكن من انتزاع الطفولة منه، لا أحد من الأطفال يرغب في طمس هذه المرحلة مبكراً من حياته، فقط نحن الكبار من يحاول أن يفعل ذلك، لا نطيق أن نراه يمارس طفولته، وعندما يفعل ذلك نسارع إلى تأنيبه من باب تعليمه، أي تعليم هذا الذي نقتلع به الطفل من حياته ونلقي به في عالم ليس عالمه؟، أعتقد أن عجزنا عن توفير حياة كريمة لأبنائنا يدفعنا لمربع الوهم الذي ندافع فيه عن قصورنا، حين ندعي باطلاً بأن شظف العيش في المرحلة المبكرة من العمر يصقل الرجولة وينبت فيها صفة الاعتماد على الذات، ولتمرير ذلك لا نتورع في الاستدلال على من شق حياته من رجال الأعمال بطريقة عصامية تبعث على الاعجاب.
أرادت أسرة أوروبية أن ترسل ابنها الصغير الذي لم يتجاوز عامه الخامس لدولة أخرى لزيارة أقارب له، تركته يفعل ذلك بمفرده، أعطته القليل من النقود وقصاصة ورق مكتوب عليها العنوان الذي يرغب في الوصول إليه، وذيلته بجملة "الرجاء مساعدة الطفل"، مؤكد أن خوف الأسرة الأوروبية على إبنها لا يقل عن خوفنا على أولادنا، لكن الفارق أنها تريد له أن يطلع على العالم ومكوناته بطريقته، لأنها تعي جيداً أن المعرفة هي الطريق الأمثل لبناء الانسان، فيما نحن ما زلنا نجهل المتغيرات المحيطة بنا، ونسعى لتلقين أولادنا مفردات الحياة التي نعرفها، كأننا نريد أن نبقيهم أسرى لها، دون أن ندرك قيمة مقولة علي بن أبي طالب كرم الله وجه "علموا أبناءكم فقد خلقوا لزمان غير زمانكم".
الطفل صاحب البشرة السمراء أعادني إلى عقود عدة مضت، يومها لم أكمل المرحلة الابتدائية بعد، أخذت من الوالدة النقود وقبل أن يختفي ظلام الليل كنت اشق طريقي إلى "الخان" حيث مكان بيع الخضروات بالجملة، كنت أقبض على "رأس المال" في جيبي وأتفحصه فيها بين الفينة والأخرى، في الخان أدركت سريعاً أن "رأس مالي" يبقيني خارج بواباته، لا أريد أن اعود ادراجي بخفى حنين، اشتريت به صندوقاً من "البدورة"، بالكاد يمكن أن تعرف أنها "بندورة" بفعل موجة الصقيع التي أصابتها وغيرت ملامحها من اللون الأحمر إلى الأسود فقدت معه دلال اسمها، ذهبت ببضاعتي إلى السوق واتخذت مكاناً لي بين الباعة، جاءت سيدة تسأل عن السعر، وقبل أن أجيبها سارعت بالسؤال التالي " إبن من تكون؟"، اجبتها على سؤاليها بالتتابع، يبدو أن السيدة اشفقت على حالي أكثر من رغبتها في شراء طماطم فقدت رونقها، بينما كانت تنتقي بعضاً منا جاءت أخرى لم تسأل عن السعر قبل أن تعطينا "موشحاً" لم تبق كلمة تصلح للتشهير بالطماطم إلا وقالتها، ردت الأولى بالقول "لا يعجبكم العجب ولا الصيام في رجب"، تبسمت لمقولتها التي تجافي الواقع، مؤكد أن شفقة السيدة على طفولتنا دفعها لذلك، ويبدو أن طفولتنا ما زالت بحاجة إلى الكثير من الشفقة.