التنازل من أجل المصالحة عطاءّ

بقلم: إبراهيم أبراش

بالرغم من استمرار سياسة الاستيطان والتهويد وتدنيس المقدسات والاعتقالات في الضفة ، وبالرغم من استمرار الاحتلال وسياسة العدوان والحصار في قطاع غزة ،وبالرغم من اتضاح خطورة خطة كيري التي تتضمن تنازلات تمس الحقوق الوطنية ، فإن المفاوضات والحوارات بين إسرائيل والفلسطينيين مستمرة سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، كما أن حركة حماس ما زالت ملتزمة بالتهدئة وهو التزام يتطلب درجة من التنسيق الأمني. صحيح أن النخب الحاكمة لم توقع على اتفاقات فيها تنازل عن الحد الأدنى المتوافَق عليه فلسطينيا ، ولكنها وتحت تبريرات متعددة  تبدي استعدادا لاستمرار التفاوض حول القدس وعودة اللاجئين وغور الأردن وتبادلية الأراضي ، بل تم قبول وقف المقاومة ليس فقط انطلاقا من قطاع غزة بل وعلى كامل فلسطين التاريخية .

مقابل هذه المرونة والاستعداد لتقديم تنازلات لواشنطن وإسرائيل، فإنه عندما يتم الحديث عن تنازلات من طرفي معادلة الانقسام الفلسطيني لبعضهم البعض من أجل إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة ،فإن حالة من التشدد والمكابرة تنتاب الجميع ، وتصبح كلمة تنازلات بمثابة الإهانة وكسر الكرامة ومحاولة لإذلال الطرف الآخر الخ !. وعندما يتم تقديم (تنازلات) ، في لحظات انفراج العلاقة أو نتيجة تدخل وسطاء، تكون شكلية وهزلية وسرعان ما يتم التراجع عنها أو عن بعضها إن لم ترجع الأمور أسوأ مما كانت .

إن كل تنازل لإسرائيل يعني فقدان لجزء من الحقوق الوطنية ويشكل خطوة تراجعية نحو الوطن ، فيما كل تنازل فلسطيني لصالح الفلسطيني يعني خطوة نحو الوطن. يبدو أن بعض نخب السلطة والحكم ترى من الأسهل عليها تقديم تنازلات للعدو من تقديمها لبعضها البعض ،لأن تقديم تنازلات لإسرائيل أو لأطراف خارجية يمنحها مزيدا من المنافع ويُعزز مصالحها وسلطتها ،فيما تقديم تنازلات لطرف فلسطيني من أجل المصالحة والمصلحة الوطنية قد يفقدها بعض امتيازات السلطة والحكم ، وهذه النخب ترى أن مصالحها الخاصة أهم من المصلحة الوطنية وأن الحزب أهم من الوطن .

ما كان أحد يطلب من حركة حماس أن تقدم تنازلات لحركة فتح  أو العكس لو كان نموذج حكم حماس في القطاع ناجحا ولو كان حكم فتح والسلطة في الضفة ناجحا ، أو كانت القضية الفلسطينية في حالة تقدم . أما وأن القضية الوطنية تمر بأسوأ مراحلها والسلطتين والحكومتين مأزومتين بل وفشلتا في توفير متطلبات الحياة الكريمة للمواطنين وفي التقدم في المشروع الذي رهنت كل منهما نفسها به ، حيث مشروع المقاومة الذي رهنت حماس وجودها به بل وقامت بالانقلاب على السلطة باسمه وصل لطريق مسدود ، ومشروع التسوية السياسية الذي رهنت السلطة الوطنية وحركة فتح نفسهما به وصل لطريق مسدود ... في هذه الحالة فإن استمرار المكابرة وعدم الاعتراف بالخطأ والتهرب من تقديم تنازلات من أجل المصلحة الوطنية لا يمكن تفسيره إلا بالخيانة الوطنية . وقد قال الأولون (أصل الكفر عناد ) .

إن كانت طبيعة العقل العربي والثقافة السياسية السائدة لا تقبل الاعتراف بالخطأ ،وبالتالي لا احد يتوقع من حركة حماس أن تعترف بأنها أخطأت في سياساتها الداخلية ومراهناتها الخارجية وأنها باتت اليوم مكشوفة ومحاصرة، وفي المقابل لا تستطيع حركة فتح والسلطة الزعم بأن خياراتهما في المراهنة على التسوية السياسية صحيحة وتحقق أهدافها، لذا المطلوب من الطرفين بدلا من الاعتراف الصريح بالخطأ تقديم تنازلات متبادلة . في هذا السياق  نتمنى على النخب السياسية الحاكمة وخصوصا على حركتي فتح وحماس أن تدرك  أن  التنازل من أجل الوطن ليس تنازلا بل عطاء ، وكلما تنازلت أكثر فهذا مؤشر حرص أكبر على المصلحة الوطنية . وما تعتبره بعض الأحزاب تنازلا وإن كان يفقدها بعض الامتيازات إلا أنه يمنحها المصداقية والشرعية ويفتح أمامها مصالح أوسع إن فكرت خارج صندوق الحزب والجماعة .

خلال الأيام الماضية عاد الحديث عن المصالحة وصاحب ذلك حديث عن تنازلات يبديها كل طرف للطرف الآخر ويعضهم وصف تنازلاته بأنها (مؤلمة ) ، وبغض النظر إن كان الحديث عن المصالحة تعبير عن إرادة حقيقية بالمصالحة تؤسس على توفر شروط موضوعية وذاتية لتحقيقها ،أو كان مجرد مناورة يسعى كل طرف لتوظيف خطاب المصالحة للتغطية على مأزقه وكورقة قوة في مواجهة خصمه الخارجي – حماس في مواجهة الحكومة المصرية وحركة فتح في مواجهة إسرائيل وخطة كيري - ، ومع إدراكنا بان طريق المصالحة الوطنية الذي يؤدي لإعادة توحيد غزة والضفة في إطار حكومة وسلطة واحدة ما زال طويلا وشاقا ويحتاج لأكثر من الإرادة الفلسطينية، إلا أن أي تنازلات تقدمها حركتي فتح وحماس لبعضهما البعض ستكون تنازلات من أجل الوطن ،و هو عمل إيجابي وعقلاني وسيراكم مع مرور الوقت طاقة حرارية كفيلة بإذابة جليد العلاقة بين الطرفين وتمهيد الطريق للمصالحة الكاملة ، كما أن أي تقارب كفيل بان يضعف من قدرة الأطراف الخارجية على توظيف الانقسام لخدمة مصالحها .

وأخيرا نقول بعيدا عن أحكام التفاؤل والتشاؤم حول جدية ما يجري من حوارات المصالحة ومآلها ،فإنه ليس من المعقول والمقبول أن تتوقف جهود المصالحة الوطنية فيما المفاوضات مع إسرائيل مستمرة و الالتزام بالهدنة معها مستمر