يُعتقد على نطاق يمكن وصفه بالواسع، بأن التغيير الذي حصل مؤخرا في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ربما جاء متأخرا أكثر مما يجب، وان المتابع لأوضاع هذا التنظيم، الذي طالما كان يوصف بأنه التنظيم الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية، كان يعلم بأن هذه اللحظة آتية لا محالة، وانه لو لم يجر هذا الذي جرى لربما حدث في صفوف الجبهة ما هو أكثر خطورة.
كان وما زال واضحا ان هنالك تيارات عديدة في الجبهة الشعبية، وقد بدأت هذه التيارات بالتبلور بشكل شبه علني على إثر استشهاد الأمين العام السابق أبو علي مصطفى في شهر آب من عام 2001 ، وقد يكون اختيار الرفيق أحمد سعدات كأمين عام "جديد" ليخلف الشهيد أبو علي، احد الأسباب التي عمقت الخلافات والتباينات في صفوف الجبهة، ذلك ان الرجل يمثل فهما وخطا مختلفا لطبيعة الصراع مع دولة الكيان الصهيوني، هذا الفهم الذي جسده سعدات في أول خطاب له بعد اختياره أمينا عاما عندما قال "إن العين بالعين والسن بالسن والرأس بالرأس".
هذا الفهم الذي عبر عنه سعدات في خطابه الأول، تم تجسيده في بداية عهده على أرض الواقع في عملية ثأرية مميزة انتقاما لاغتيال الرفيق أبو علي مصطفى، حيث كان لم يمض على ذلك سوى أقل من ثلاثة شهور، ويمكن القول ان عملية اغتيال وزير السياحة الصهيوني رحبعام زئيفي، كانت سابقة في العمل الكفاحي الفلسطيني، هذا الفعل الذي جسد فلسفة وفهم سعدات للعمل المقاوم، لم يكن محط ترحاب من العديد من قيادات الجبهة خاصة تلك الموجودة في الأراضي الفلسطينية.
ان الفجوة وعدم الاتفاق في كيفية المواجهة مع دولة الاحتلال، وفي الطرق والوسائل التي لا بد من إتباعها، كانت جلية في صفوف الجبهة الشعبية، وخاصة في الصف الأول منها، حيث كان هنالك فهمان مختلفان ان لم يكونا متناقضان، فهم يجسده أحمد سعدات ويتمثل بالتصعيد الكفاحي وبشرعية المقاومة بكل أساليبها وطرقها وفي مقدمتها الكفاح المسلح، وفهم آخر يحاول التساوق مع ما هو مطروح وما يتم الترويج له من قبل الموقف الرسمي للسلطة الفلسطينية، والذي يتحدث سقفه الأعلى عن مقاومة شعبية ضد دولة الاحتلال.
هذان الفهمان لطبيعة المواجهة مع الاحتلال، كانا السمتين البارزتين في المواقف بين القيادات الأولى في الجبهة، وهذا ما أدى إلى انتقال مثل هذه العدوى إلى قواعد الجبهة وكوادرها المختلفة وفي كافة الرتب والمواقع، هذا عدا عن المواقف المشابهة التي كانت موجودة ما بين الداخل والخارج، وكذلك بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
هذه الحالة من التباين في المواقف، كان يمكن لها ان تعصف بالجبهة الشعبية إلى مآلات غير محمودة، ولم يكن من المستبعد حدوث انشقاقات في صفوف الجبهة بشكل علني فيما لو استمر الحال على ما هو عليه.
لقد جاء المؤتمر الأخير الذي انعقد بمناسبة انطلاق الجبهة الشعبية، ليشكل ما يشبه الرافعة لهذا التنظيم، إلا انه لا يمكن الحديث عن انتهاء الواقع الذي ساد صفوف الجبهة منذ استشهاد أبو علي مصطفى، برغم الملامح التي تؤشر على ان تيار الرفيق أحمد سعدات هو الذي حصل على الغلبة إذا جاز التعبير، خاصة في ظل اختيار نائب الامين العام للجبهة من القيادات المقيمة في الخارج، وهذا ما يوفر المزيد من حرية الحركة واتخاذ القرارات في ظل وجود الآمين العام في المعتقلات الصهيونية.
برغم التحفظات ومحاولات التعتيم التي أحاطت بالتطورات الأخيرة في صفوف الجبهة، وبرغم ما قيل عن استقالة العديد من القيادات التاريخية للجبهة، إلا ان هنالك من المصادر التي تؤكد ان هؤلاء لم يقدموا استقالاتهم، وان الأمر كان انه تم عدم التجديد لهم ولم تتم إعادة انتخابهم من جديد.
وبغض النظر عن صحة هذه الرواية أو تلك، فان ما حدث في صفوف الجبهة من تغييرات، يعتبر "طفرة" في التاريخ الفصائلي الفلسطيني، حيث تعودنا على رؤية القياديين في فصائل العمل الوطني يبقون في مواقعهم من المهد إلى اللحد.
التغيير الذي جرى في الجبهة الشعبية، سواء من خلال الاستقالة، أو من خلال الانتخاب يعتبر أمرا مرغوبا به، لا بل هو مطلوب بإلحاح، نرجو ان نراه ممتدا ليشمل العديد من الفصائل والأحزاب في الساحة الفلسطينية التي لم تعقد مؤتمراتها منذ فترات طويلة، والتي حتى وإن عقدتها فإنها تعود لتكرر "إفراز" ذات الوجوه، وذات القيادات التي باتت "جعبها" فارغة، ليس لديها القدرة على التجديد ولا العطاء، وهي في أفضل الأحوال مكتفية وسعيدة بالعمل على تحقيق مصالحها الخاصة، وزيادة امتيازاتها الذاتية، وأصبحت في بعض الأحيان تمارس ذلك علانية، دون شعور بأي إحساس بالخجل أو الحرج، وصارت محل غمز ولمز على مستوى القواعد ضمن تلك الفصائل والاحزاب.
ما جرى في الجبهة الشعبية، هو أقرب إلى "الانقلاب" منه إلى أي شيء آخر، حيث تم استبعاد العشرات من الوجوه التقليدية، وقيل ان عدد من تم استبعادهم يزيد على 35 من القيادات المعروفة في صفوف الجبهة، وفي مقدمتهم الرفيق عبد الرحيم ملوح الذي كان يشغل منصب نائب الأمين العام والذي وبحسب العارفين، لم تربطه علاقات وثيقة بالأمين العام للجبهة الرفيق أحمد سعدات، لا بل يصف البعض تلك العلاقة بأنها كانت في حالة متراكمة من التوتر وعدم الانسجام بسبب المواقف المتباينة للرجلين في العديد من القضايا.
برغم ان ما جرى في الجبهة الشعبية، لم يعجب البعض، وأشعرهم بالغضب وعدم الرضي، إلا أننا نعتقد ان ما حدث كان خطوة على الطريق الصحيح في التغيير، وفي تقوية وتصليب مواقف الجبهة وإعادة "تربيط" لصفوفها، هي بحاجة إليه كما ان الساحة الفلسطينية بحاجة إليه، حيث ومن خلال صلابة الفصائل وقوتها يمكن لجماهيرنا ان تكون أكثر صلابة وأكثر قوة، كما ان هذه التجربة قد تنعكس إيجابا على مجمل الفصائل الفلسطينية، لتهب رياح التغيير عليها، فنرى وجوها جديدة تقف في الصفوف الأولى لتلك التنظيمات، خاصة بعد ان بتنا جميعا نعلم ونرى ان هنالك العديد من الرؤوس في تلك التنظيمات التي أينعت وحان قطافها ولا بد لها ان تترك المكان لغيرها.
13-1-2013
[email protected]