الوجدان، العقل، السلوك

بقلم: أحمد إبراهيم الحاج

الجزء الثامن من كنعان في عيادة الطب النفسي

الجلسة الرابعة

جاء موعد الجلسة الرابعة.

ما أطولها من جلسة،ليس في زمانها،

بل في وقعها على النفس،

لكنها مفيدة وتستحق القراءة.

دخلت للطبيب متشوقاً ومتلهفاً

لسماع المزيد عن مرض الفصام.

أصغيت اليه بكل جوارحي.

إستند الى كرسيه المتحرك في مواجهتي وقال:

الشخصية الإنسانية يا كنعان كالموقدة،

ترتكز على ثلاثة أثافٍ (أعمدة)،

تؤثر في استقامتها واستقرارها.

العمود الوجداني العاطفي.

العمود العقلي المعرفي.

العمود الحركي والسلوكي.

....

اولاً : العمود الوجداني العاطفي

يعكس الجانب الإنساني الفطري،

فيما يتعلق بالقيم والأخلاق والعاطفة والأحاسيس،

والموروثات من العادات والتقاليد والسلوك.

ومن الأساطير والأحجيات والخرافات المتوارثة.

كالمعتقدات الدينية المنحرفة عن مقاصدها.

ولا يتدخل في بنائه العقل.

....

ثانياً : العمود العقلي المعرفي.

وهو تجميع للمعارف وتراكم للخبرات.

وتخزينها بالذاكرة.

ثم استدعاؤها عند الحاجة،

وتحليلها علمياً ومنطقياً وقياسياً بالعقل،

وذلك للحكم الرشيد على الأمور الحياتية.

واختيار الطريق الأمثل سلوكاً،

والأنجع نتيجة في معالجة المشكلات والإشكالات،

التي تواجه الإنسان في حياته اليومية.

...

ثالثاً : العمود الحركي والسلوكي.

وهو يهتم بالجسم والذات البشرية.

وهو المؤشر والمقياس الظاهري

لصحة الإنسان النفسية والعقلية.

إنطلاقاً من سلوكه وصحته الجسدية.

"العقل السليم في الجسم السليم".

…..

يولد الإنسان نقياً طاهراً في عواطفه وأحاسيسه.

إجتماعيٌ بفطرته، يحب الأنس، مدنيٌ بطبعه.

إلاّ ما يحمله من صفات متوارثة

تحددها الجينات الوراثية.

التي هي مزيج من جينات الأبوين،

ولا تخلو من تأثيرات جينات الجذور.

ولا ذنب له فيما ورثه عن أسلافه.

لكن عليه تقييم المتوارث،

لتقويم الخبيث منه أو علاجه واجتثاثه.

والبناء والتطوير على الحميد.

…..

الشخصيات الإنسانية كالمركبات الكيميائية.

هنالك المركبات البسيطة،

تتكون غالباً من عنصرين

متحدين بروابط كيميائية ضعيفة سهلة التفكك،

تتحلل بسرعة وسهولة إلى عناصرها الأولية.

سريعة الذوبان والهضم.

وهنالك المركبات المعقدة.

تتكون من عدة عناصر متمازجة،

تربطها روابط كيميائية قوية صعبة التفكك.

تحتاج الى جهد كبير وخطوات طويلة لتحليلها.

....

كنعان من الشخصيات المركبة المعقدة.

لأنه استوطن منذ القدم في فلسطين.

وما زال يستوطن فيها بجسده إن كان مقيماً.

وتستوطن هي في وجدانه وعقله إن كان مُبعداً.

حيث لقبت قديماً بإسمه "أرض كنعان".

على الرغم من صغرمساحتها،

إلاّ أنها كبيرة وعظيمة في شأنها.

وتعتبر مركزاً روحياً لسكان الأرض.

لذلك سعت كل الإمبراطوريات السالفة،

وتسعى كل الإمبراطوريات الناشئة،

الى ضم فلسطين لحياضها.

لتكتمل هيبتها ويعلو سلطانها.

لأنها مهبط الرسالات ومهدٌ لمعظم الأنبياء.

هذا عداك عن أرضها المباركة،

مناخها المعتدل، جمال طبيعتها المتكاملة.

ثمارها أقرب ما تكون لثمار الجنة الموعودة.

كما ذكرها الله في القرآن الكريم.

التين والزيتون، النخيل والأعناب والرمان.

زيتونةٌ لا شرقية ولا غربية،يكاد زيتها يضيء.

هذا الى جانب جاذبيتها الروحية.

لم تخل أرضها من آثار قدم لنبيٍ أو رسول،

أو قائدٍ عظيم على مر التاريخ.

كل ذلك جعل من أرضها المقدسة،

مركزاً وساحة مفتوحة للصراعات.

توالت عليها الأمم بأعراقها المختلفة.

بعاداتها وثقافاتها ومعتقداتها وموروثاتها المتنوعة.

تواترت عليها الغزوات والحروب،

رحلت عنها كل الأمم كما جاءت.

بقي كنعان منزرعاً فيها يمنحها هويته.

مما لا شك فيه، تأثر بموجات الغزاة.

لذلك امتزجت وتنوعت فيه الأنساب والدماء.

وتمازجت بدمائه الحضارت والثقافات.

وأنتجت شخصية فلسطينية متشعبةً مركبة،

تجمع بين المتناقضات والمترادفات والمتجانسات.

حيث مر عليها العرب والإغريق،

والروم والفرس والتتار،والترك ......الخ.

وبقايا الحجاج من كل الطوائف والأجناس

من حملة الصفات الوراثية المتنوعة،

ما حَسُن منها وما ساء، وما بينهما.

لذلك كان لتأثير البيئة وتمازج الأنساب،

والمناخ السياسي والإجتماعي والعرقي والثقافي،

الأثر الكبير على تكوين شخصية كنعان.

فهو يجمع ما بين الرفق والقسوة،

اللين والشدة،الطاعة والعناد،

الذكاء والغباء،ذكاءٌ في جوانب عدة وغباء في جانب.

الطيبة والخبث، التمرد والولاء.

الحكمة والرعونة، الحقيقة والضلال،

الواقعية والخيال، الإيثار والأنانية،

الكرم والبخل، ...الخ من المتناقضات.

يُذيبُ ولا يُذاب، عسير على الهضم والذوبان.

لحمه مر، وشرابه علقم.

لذلك فهو فردي الإبداع وفردي الإخفاق.

إبداعاته تفوق إخفاقاته.

لكنه تفاضليٌ في شخصيته وغير تكاملي،

إذ لا فائدة تُرجى من التفاضل في غياب للتكامل.

هنا تكمن المشكلة.

تتعاكس فيه الإتجاهات، وتقلُّ فيه المنجزات.

كل أسرة فيه دولة برئيسها ووزرائها.

وكل وزير عينه على وزارة غيره.

الكنعانيون كلهم شيوخٌ بلا قبيلة، زعماءٌ بلا شعوب.

الشخصية السّوية يا كنعان توازن بين المحاور الثلاثة.

إن أصاب الخلل محوراً،

أو طغى محورٌ على الآخر،

إهتزت الشخصية ومرضت.

في حالتك المرضية العرضية،

طغى محور الوجدان والعاطفةعلى محور العقل والمعرفة.

رجحت كفة العاطفة على كفة العقل.

تبلدت كفة العاطفة من كثرة الجرائم والمصائب،

قتل النفس التي حرم الله إلاّ بالحق.

أصبح القتل وسيلةً للحوار والتفاهم بين الأخوة.

تأثر محور الوجدان بالضلالات والمعتقدات الخاطئة.

تمسك بأحجيات وخرافات وآياتٍ في غير مواضعها.

وشعارات سياسية زائفة مفرغة من محتواها.

قولٌ وخطابةٌ لا يسبقهما أو يتبعهما فعل،

إيمانٌ فردي راسخ لا يُصدِّقه عمل جماعي.

نهيٌ عن خلقٍ وإتيانٌ بمثله.

في غياب للعقل والمعرفة والحكمة والمنطق،

ودون عبرة وموعظة من الخبرة.

لهذه الأسباب مجتمعة،

أُصِبْتَيا كنعان بالإنفصام العقلي السياسي.

وتطور الى الإنفصام العام بمعناه الشامل.

....

قاطعته مستفسراً أستعجل العلاج.

نظر الى الساعة وأعلن إنتهاء الوقت.

وكالعادة ليس لدي نقوداً كافيةً لتكملة الجلسة.

حجزت موعداً جديداً للجلسة الخامسة.

إلى اللقاء.