الشيزوفرينيا الإجتماعية والأخلاقية

بقلم: أحمد إبراهيم الحاج

الجزء التاسع من كنعان في عيادة الطب النفسي
.................................
عدت الى البيت مقتنعاً بكفاءة الطبيب.
مما غطى على جشعه المادي،
لكن الصحة تاجٌ فوق رؤوس الأصحاء.
بدونها لا ينفع مالٌ ولا ممتلكات.
لذلك سأكمل العلاج
بغض النظر عن كلفته الباهظة.
....
دخلت البيت وقد خَفَّت قليلاً تقطيبة جبيني.
تزايد شعاع الأمل المضيء في نهاية النفق.
قابلتني أم العبد ولم تسألني عما حدث معي.
بادرتني بخبر تأكيد موعدنا مع أهل العروس.
غداً الخميس يا ابو العبد.
لازم تتشيك على آخر طرز.
بدلتك الرسمية قديمة،
ربطة العنق ساحتة وباهتة.
حذاؤك مشقق، طوق القميص مُهتريء.
هيا أسرع، نذهب الى السوق.
يا بنت الحلال ما في فلوس.
والله ما بحب لبس البدلات وزنقة الربطات.
ملابس السبور عندي جديدة.
خليني على طبيعتي، بنطلق بالحكي أكثر.
لا بالعكس يا ابو العبد،
لازم تتشيك حتى يعرفوا قدرك وقيمتك.
إنت دكتور صيدلي قد الدنيا.
أبو البنت توجيهي (شو جاب لجاب) بس مقاول كبير.
قيمة الإنسان في عقله وتحصيله المعرفي يا أم العبد.
ليس بملابسه وشهاداته وممتلكاته.
يعني لازم تحكي دكتور قبل صيدلي.
أنا صيدلي، نقطة قبل، ونقطة بعد، وبين قوسين.
إنتَ بتحكي كلام نظريات ومباديء يا ابو العبد.
"ما عادت المباديء والنظريات تطعمي خبز هالأيام."
قلت في نفسي:
"تلك هي الشيزوفرينيا الإجتماعية والأخلاقية".
..
ما يهمك موضوع الفلوس،
ضربت بيدها على صدرها وقالت .. عندي.
..
شو رأيك يا أم العبد نروح سوق الرابش (المستعمل).
أرخص بكثير وبنحصل حاجات مناسبة.
ماركات عالمية، بس بدها غسيل وكوي.
بتتذكري البقجة من وكالة الغوث... مثلها بالزبط.
"أيوه .. إنت يا زلمة بدك تفضحنا وتجرِّس علينا.
أكيد رح نلاقي ناس كثير من معارفنا هناك".
قلت لها: تصديقاً لكلامك،
سمعت أن بنات الطبقة الراقية،
يذهبن إلى هناك متخفيات بحثاً عن الماركات العالمية.
"تلك هي الشيزوفرينيا الإجتماعية".
...
لازم تلبس بدلة جديدة وقميص جديد،
وربطة ألوانها مفرفحة على الموضة،
وكندرة لماعة.
الجماعة من سكان الأحياء الراقية.
....
ليس لي إلاّ الإنصياع لرغبات أم العبد.
كيف لا وهي الشريكة المتضامنة الطيبة والمدبرة.
....
وصلنا بيت أهل العروس.
لا .. ليس بيتاً، إنه قصرٌ ذو ساحة فسيحة،
مرصعة بأنواع الرخام الأجنبي.
كانت أصوات أحذيتنا تطرق أسماعنا كأنها الصاخة.
سمعنا صوت كلبٍ ينبح بلغةٍ أجنبية.
لا بشبه صوت الكلاب الضالة في بلادنا.
كادت أم العبد أن تتزحلق لولا أن أمسكت بيدها.
استقبلنا والديها بحفاوة وما زال الكلب ينبح.
تحدث مع الكلب بلغة مشتركة بينهما فصمت.
جلسنا بالصالة الفارهة على مقاعد وثيرة.
بين التحف والمناظر واللوحات الفنية الثمينة.
وكأننا في معرض لفنان تشكيلي محترف.
....
دخلت إلينا فتاةٌ جميلة متشيكة،
تحمل الضيافة على طبق مذهب.
بادرتها أم العبد قائلةً:
أسم الله حولك وحواليكِ
الله يحفظك يا عروستنا الحلوة.
إبتسمت والدة العروس،برمت شفتيها،
هزت كتفيها باستعلاء واستغراب قائلة:
"هاي الخدامة يا أم العبد".
ستأتي ليليان بعد قليل.
...
دخلت ليليان، سلمت علينا وجلست.
استرقت النظر باتجاهها وباتجاه سليم.
عينيها في عينيه يتبادلان لغة مشتركة تنم عن الإعجاب.
لا ..لا، إنها نظرات حب، لقد تخطت مرحلة الإعجاب.
عرفت ذلك بخبرتي الطويلة في الحياة.
قلت في نفسي:
"والله ما إنت قليل يا ولد يا سليم،
صدق المثل (فرخ البط عوّام) ،
سقى الله على أيام الشباب
والله إحنا بينكم مثل الأطرش بالزفة".
....
دخلت في الموضوع موجهاً حديثي لوالدها.
نحن نريد القرب منكم لنتشرف بنسبكم.
شعرت بالربطة تضغط على عنقي وأوداجي،
أحسست باحمرار يلون وجهي، وعرقٍ ينزف من جبيني،
وكأنني ألقي خطاباً في مؤتمر قمة عربي،
لم تسعفني لغة التمثيل والنفاق،
فأخذتها من قصيرها بدون مقدمات وقلت:
إحنا طالبين إيد بنتكم لولية لإبنا سليم.
نخزني سليم وهمس بأذني "ليليان يابه".
ذاكرتي ذهبت بعيداً لجدتي لولية - الله يرحمها -
عفواً-عدم المؤاخذة- نريد ليليان لسليم وجاهزين لطلباتكم.
رد عليّ والدها وكأنه قد تعود على خطابات التمثيل والنفاق:
"الله يحييكم وأهلاً وسهلاً فيكم. زارتنا البركة.
من ملفاكم لملقاكم والعين تراكم والقلب يهواكم".
نحن نشتري رجلاً ولا يهمنا المال.
والمثل بقول "كون نسيب ولا تكون قرابة".
والله هذي ساعة مباركة.
"تذكرت شعراء مدح السلاطين".
واستطرد بحديثه يقول:
لا مطالب لنا فوق المعقول والطاقة.
ولا نريد شيئاً إلاّ سعادتهما.
يكفي أن سليم شاب متعلمٌ وعصاميٌ وطموح.
.....
قلت له: لكن لا بد من الإتفاق على التفاصيل.
قال: بسيطة لن نطلب أكثر مما هو دارج بين الناس.
لن تكون ليليان أقل من صديقاتها وبنات عمها
على الرغم من تميزها عليهن بجنسيتها الكندية.
كما وأنها إبنتنا الوحيدة، ولم يرزقنا الله بولد.
لمح قلماً في جيبي،
أعطاني دفتر ملاحظات وبدأ بإلإملاء عليّ،
أكتب يا ابو العبد:
المهر المقدم خمسة وعشرون ألف دولار أمريكي.
المؤخر خمسون ألف دولار كندي.
التلبيسة طقمين من الألماس.
الجاهة في فندق أربعة نجوم مع بوفيه.
حفل الخطوبة بفندق خمسة نجوم مع بوفيه.
كتب الكتاب في صالة أفراحٍ راقية مع مناسف.
حفل الزفاف بفندق سبعة نجوم مع بوفيه فيرست كلاس.
صيغتها كلها من الألماس.
سيارتها دفع رباعي ألماني"فل أبشن".
سكنها في حي راقٍ بالمنطقة الخضراء.
بيتها مجهزٌ مما هب ودب.
أثاثٌ مستوردٌ من الغرب.
وخاصة التحف واللوحات والمناظر، والحيوانات الأليفة.
ملابسها ماركات عالمية.
أكلها من المطاعم الراقية.
خادمتها فلبينية.
راتبها لها وحدها.
...
نظرتُ الى أم العبد وجدتها تزمُّ شفتيها بامتعاض.
وقع نظري على سليم.
رفع حاجبيه وأشار عليَّ بالرحيل.
وما زال والدها يعدد بالمطالب.
وضعت القلم قبل أن يكمل.
إنتهى من تعداد المطالب.
قلت له: بصراحة لن نقدر على مطالبكم.
الله يبعثلكم الناس القادرين على تلبيتها.
كل شيء قسمة ونصيب.
طلبت الإستئذان.
نظرت الى ليليان فوجدت وجهها ممتقعاً
وعينيها معلقتين بسليم.
خرجنا بخفي حنين.
قال لنا سليم في طريق عودتنا:
أنا متأسف، لا تقلقا مما حصل.
"خليهم ينقعوها ويشربوا ميتها".
البنت بتحبني ومتعلقة فيَّ كثير،
وما رح تتزوج غيري.
أنا واثق من أنه سيتصل علينا يوماً ما.
قلت في نفسي متمتماً:
يقول أننا نشتري رجلاً وعلماً،
ليس لنا مطالب ولا نريد شيئاً إلاّ سعادتهما.
عامل حاله أوناسيس (المليونير اليوناني).
"أي بقطع إيدي إذا ما رعى الغنم في زماناته"
الأفعال والنوايا تتناقض مع الأقوال.
يُساوم على إبنته كأنها سلعة.
"تلك هي الشيزوفرينيا الأخلاقية والإجتماعية".
إلى اللقاء في الجلسة الخامسة.