حين تفقد الحكومة، أي حكومة، الحس العام بمحيطها، فإنها تتخذ ما تشاء من القرارات، من دون اعتبار لتبعاتها وردود الفعل عليها ، ولقد أصدرت الحكومة قراراها المشؤوم بدون خجل فما عادوا يخجلون .
قرار حكومة الحمد لله بخصم المواصلات والعلاوات الإشرافية من الموظفين الشرعيين الملتزمين بالقرارات الصادرة عن أعلى المستويات والتي صدرت بصيغة الويل والثبور وجعلوا خيانته وعدم الإلتزام به من عظائم الأمور ، فلقد قُطعت الرواتب ونُصبت المشانق لكل من خالف القرار ، وتم إصدار الوعود بأغلظ الأيمان بأن الحقوق مصانة ولن يتم توجيه للمُلتزم أي إهانة ، وبعد أن تأكدوا أن الموظفين تعودوا وتصوروا أن رواتبهم ستبقى مُصانة بعد أن رضخوا للظلم والحيف والنكران لحقوقهم والتلاعب بها بكل إستكانة وبعد أن إستفحل فيهم مرض الإستدانة ، نفذت الحكومة جريمتها بكل إستهانة ، نفذوا جريمتهم غير مدركين أبعاد المهانة .
لقد كان السلوك الحكومي تدميري وعنصري بإمتياز ويمكن إعتباره يصب في خانة الافتقاد للحس العام ، والمعنى هنا ليس أخلاقياً فحسب، بل سياسي بامتياز، ويتصل بجملة من الاعتبارات يضعها المسؤول، أياً كانت درجته الوظيفية ، قبل التوقيع الأخير.
لقد أُسقط في يد الموظفين فهم لم يتوقعوا هذا القرار ، فلقد علا صوت الأشرار ، وخبا صوت الأخيار ، فالموظفين في غزة أصبحوا على قارعة الطريق ، والكل يتفنن في إشعال الحريق ، ولقد خذلهم الأخ والصديق ، وبعدما ألقوا بهم في جوف سحيق ، أحاطوا أعناقهم بحبل رقيق ، ولقد تفننوا وحبكوا الأمر بشكل دقيق ..
اليوم خصم للمواصلات والعلاوات وغداً إحالة للتقاعد بالألاف ، وعلى قاعدة إنسى اللي فات ، لسان حالهم يقول لهم إنتظروا الممات .
ولما لم يكن بيدي أي حيلة كان صمتي كل ما استطعت البوح به ، فلقد صمتت , لأن بعض الضمائر أصبحت منتهية الصلاحية ، أصبحت تتشدق بالعنصرية ، وغابت عن تصرفاتها الوطنية ، وأصبحت تلعب على وتر المناطقية ، وإلا بالله عليكم كيف يمكن تبرير الأفعال الحكومية تجاه موظفي الشرعية ، يا أصحاب العقول ، هل هذا الخصم مقبول ؟!!! ، يا أصحاب القلوب ، لقد إمتلئت قلوبنا بالثقوب .
فعن موظفي غزة تخصمون ... لإنصاف الشهداء كما تدعون ، فلا أنصفتموهم ولا ما يحزنون وفي الخصم أنتم مستمرون ، وعلى الظلم مصرون ، وعن الحق معرضون .
يا الله كم أشعر بالألم الشديد والحزن العميق والشجن وكأن خنجر الوطن يذبح أبناءه بيديه وينوح على رفاتهم ثم يدفنهم تحت ترابه ويقسم أن لا يلد غيرهم بعد اليوم...!! وكيف يلد غيرهم...؟!! وأبناؤها الصالحين قد ذهبت عقولهم في غيبوبة وأصبحت ضمائرهم في حكم المستتر ثم شلّت ألسنتهم عن قول الحق وغادروا معركة الشرف منهزمين بلا عودة..!!
والآن دعونا نتوقف قليلاً لنلتقط أنفاسنا ، ولنفكر معاً بعمق وروية ...
القرار الحكومي الذي تم إتخاذه بليل وإستخدمت كل وسائل التظليل والإرباك في تمريره ، فمن نفي إلى تأكيد وصولاً للتطبيق والخصم ترافق مع كلام عنصري قبيح وتنصل من المسؤوليات بشكل فج وبتبريرات ساذجة تتوقع من المتلقي والقارئ الغباء المطلق لتصديق هذه التبريرات ، ولقد أحدث هذا القرار إشتباكاً فيسبوكياً بين المؤيدين والمطبلين وبين المذبوحين المشمولين بهذا القرار والمستشعرين بخطورته السياسية لا المادية .
ولما لم يكن معروفاً عن رئيس الوزراء أي ميول عنصرية أو مناطقية بل كان الجميع يشهد له بحس الوطنية وبحس الإنسانية ، ولما كان في بدء عهده تحدث بإيجابية عن معاناة قطاع غزة ، توقع الجميع أن يكون عهده تغييراً عن سلفه للأفضل ، لكن التوقعات سرعان ما تحطمت على صخرة القرارات المجحفة ، على صخرة الإستمرار في النهج السابق وبتطبيق أقبح وأسوء ، فما الذي يدفع برئيس الوزراء إلى التناقض مع نفسه ، وانتهاج أسلوب سبق أن تصدى له؟
لا أجد تفسيراً غير ذاك المتعلق بمفهوم الحس العام؛ وإغراء الجلوس على الكراسي الوثيرة ، إذ يبدو أن فرط الشعور بالثقة بالاستمرار في الحكم، وتوالي التأكيدات على أن الحكومة باقية لفترة مفتوحة، يُغري القائمين عليها بالتوسع في إلحاق الأذى بالمتمسكين بالشرعية ، من دون أدنى شعور بالعواقب المترتبة على انتهاكها، ولا حساب لردة الفعل المتوقعة من جهة الموظفين أو حتى من أعضاء المجلس التشريعي ناهيك عن المستويات القيادية المختلفة والتي يقف على رأسها أحد أعضاء الخلية الأولى لحركة فتح .
ذلك هو باختصار التطبيق العملي لفقدان الحس العام بموقع السلطة، من غير اعتبار للمسؤولية ، ويبقى هذا المنطق سائداً وفي ظل غياب الضمير يسود منطق الحمير ، ودن من طين وودن من عجين ، لكن الأمل يبقى معقوداً في أن يتدخل أصحاب الضمائر الحية ، يبقى الأمل معقوداً على من لا زالت في قلبه جذوة الوطنية والإنسانية كي يمحي عار هذه الجريمة .. فهل هناك أمل ؟؟؟!!!!!!!!! وللحديث بقية .