الكلمة السواء
الجزء العاشر من كنعان في عيادة الطب النفسي
(الجلسة الخامسة)
...........................................................
دفعت رسوم الكشف وجلست بالصالة متخفياً،
فجأة دخلت حالة طارئة.
إختلست النظر من تحت الكوفية،
رجلٌ وامرأة تتوسطهما فتاة ترتكز على كتفيهما،
كان يبدو عليها التعب والإعياء والشحوب.
يا للهول! إنها ليليان ومعها والديها.
شعرت كأنها إبنتي، تألمت كثيراً لحالها.
أحضرت الممرضة كرسياً طبيا،
جلست عليه ليليان ترتعد واسنانها تصطك.
أسرع والدها باتجاه الممرضة.
أرجوك: إبنتي منهارة ستموت،
نريد دخولها للطبيب بسرعة.
دفع والدها رسوم الكشف المستعجل.
جلسوا ينتظرون خروج المريض.
دخلت ليليان.
تمنيت لو دخلت معهم لأطمئن على حالها.
تذكرت ما قاله سليم عن تعلقها به.
خامرني شكٌ بأخلاق سليم.
ربما اقترف المحظور مع الفتاة.
كل شيءٍ جائز الحدوث في هذا الزمان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أستغفر الله العظيم.
لا.. لا.. لا يمكن أن يعملها سليم.
يبدو أنها مُدنفةٌ بعشقه وتضغط على والديها،
من أجل التنازل في المفاوضات.
.....
خرجت ليليان فأشحت الكوفية قليلاً،
إختلست النظراليهم..يا للمفاجأة!
ليليان تمشي على رجليها بدون كرسي.
وقد انفرجت أسارير وجهها قليلاً.
خرج الطبيب معهم الى مكتب الممرضة،
سمعته يقول: لا تقلقوا، حالتها عرضية.
لا تحتاج الى دواء، الحقنة التي أخذتها كافية.
دعوها تنام في البيت وتسترجع أنفاسها.
سترجع طبيعية كما كانت بإذن اللهوبعد زوال السبب.
أرجوكم أن تنفذوا ما اتفقنا عليه كي لا تندموا،
وحينها لا ينفع الندم.اللهم فاشهد إني قد بلّغت.
...
بعد طول انتظار، جاء دوري بعدها مباشرة.
نظر اليّ الطبيب وقال:حالتها ليست سراً،
لأنها شائعة في مجتمعاتنا.
بنتٌ جامعية تحب شاباً متعلماً ومؤهلاً وهو يحبها،
طلب يدها للزواج على سنة الله ورسوله.
المانع الوحيد أنها من طبقة غنية،
وهو من طبقة شعبية نامية
لا يقدر على تلبية مطالب أهلها.
معظم أغنياء البلد منشأهم من طبقات شعبية.
كانوا فقراء، لكن ذاكرتهم خرقتها نفخة الترف والغنى.
إنها الشيزوفرينيا الإجتماعية الطبقية.
المستقبل أمامه مفتوح على مصراعيه.
لا أدري لماذا يقف والديها في طريقها.
فهمت الموضوع وقلت "الله يهدي الجميع".
...
كيف تشعر الآن يا كنعان؟
أشعر بتحسن تدريجي يا دكتور.
إذن لنكمل العلاج السيكولوجي.
الله وهبنا العقل ليكون الحكم والفيصل،
ما بين المنطق واللامنطق.المعقول واللامعقول.
إن إحترنا في أمر نزنه بميزان العقل.
ما توافق مع العقل والمنطق فهو الصواب،
وما اختلف مع العقل والمنطق فهو الخطأ.
أريد أن أسألك:
من المستفيد من حالة إنفصامك السياسي والجغرافي؟
بالتأكيد هو العدو ومن يلف لفه يا دكتور.
ومن المتضرر؟
بالتأكيد أنا، وكل ذريتي ومن سيرثنا من بعدنا.
وما سبب إنفصامك؟
أنا في الواقع المرير، أختلف مع أنا في الخيال الجميل.
معنى ذلك أنك أنت في الواقع،
تمسك عصاك الخاصة بك من طرفها لتمتلكها كلها.
ولا تريد أن يشاركك بها أحد.
لذلك يسهل إفلاتها منك.
مهما طال بك الزمن ممسكاً بها.
….
وأنت في الخيال،
تمسك بعصاك الخاصة بك من طرفها لتمتلكها كلها،
دون أن يشاركك بها أحد،
فيسهل إفلاتها منك.
كل جزء منفصم منك يمسك بعصاه الخاصة.
تختلفان وتقتتلان على الحصص والغنائم.
ماذا لو أمسكتم عصاً واحدة من منتصفها،
نحن أمة وسط يا كنعان.
هل يسهل إفلاتها منكما؟
بالتأكيد لا يا دكتور سيكون إفلاتها صعباً.
هل هذا منطق ويتفق مع العقل؟
نعم يا دكتور.
إذن أنتما تعملان بعكس المنطق،
لذلك فشلتم باتباع هذا النهج، وتفشلون،وستفشلون.
المشكلة الآن يا كنعان،
كيف سيتخلى كل واحد عن عصاه الخاصة.
أنا أقول لك:
تتحركان حركة متلازمة بإتجاه بعضكما البعض،
بدءاً من الأطراف المتباعدة لتلتقيا بالمنتصف.
فتمسكا سوياً بعصاة واحدة من نقطة الوسط،
بذلك تعم الفائدة على الجميع.
...
الخيال يا كنعان كالسراب،
حالٌ نتمنى أن نعيشه،وهو غير ملموس.
نجسده خيالاً في أحلام اليقظة.
نلجأُ إليه كمخدرٍ للهروب من واقعنا المرير،
ولكنه يظل حلماً صعب المنال في ظل واقع مرير.
تماماً كمن يشرب كأساً من الُمسكرات،
أو يشتم نباتاً يُذهب العقل خوفاً من مواجهة الواقع.
...
الواقع يا كنعان نعيشه يومياً،
وهو ملموسٌ ومجسدٌ أمامنا.
"حمامة داجنة تبيض وتتوالد في البيت،
خير من رفٍّ بريٍّ يطير في السماء".
علينا معاً أن نُقيِّم ونُقوِّم الواقع ما استطعنا الى ذلك سبيلا،
ليكون واقعنا بأحسن حال ليخدم أهدافنا،
جزئياً أو كلياً أيهما المتاح.
نراكم الأجزاء المستطاعة على مراحل لنصل الى الكل.
جاوبني بالمنطق يا كنعان:
بأي عصاةٍ ستمسكان إن قررتما المُقاربة والمصالحة؟
المنطق يقول بعصاة الواقع الذي نحياه يا دكتور.
نعمل سوياً للتخفيف من مرارته،
ونطوره للإرتقاء به للأحسن.
الآن بإمكاني القول:
أنك وضعت قدمك اليمنى على عتبة الشفاء.
وربما تحتاج لجلسة أو جلستين لا أكثر.
لتُلْحِقَ قدمك اليسرىباليمنى وتنطلق.
لكن الأقوال يا كنعان يجب أن تتبعها أفعال،
لأن الإزدواجية في المواقف نفاق.
وخلاف ذلك:
ستحدث إنتكاسة لحالتك المرضية،
وستكون أثقل وأصعب وطأةً من سابقتها.
لا يكفي أن توافق بالعلن وترفض بالخفاء.
إن الله لا يخفى عليه خافية،
كما وأن حبل الكذب والنفاق قصير.
"ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تُعلمِ".
سيبقى ملفك قائماً عندي حتى تُتوِّج الأقوال بالأفعال.
وإن لم يحدث ذلك، تذكر جيداً ما سأقوله لك الآن:
"ستأتيني منهاراً متهالكاً محمولاً."
وحينها سيكون الشفاء معجزةً من عند الله.
ودّعني وتمنى لي التوفيق.
إلى اللقاء في جلسة قادمة.
بقلم أحمد ابراهيم الحاج
19/1/2014 م