ذي قار يوم من أيام العرب، استطاعوا به أن يتخلصوا من جبروت قوة عظمى في العالم حينئذ، واكتشفوا أنهم قوة جبارة لا يستهان بها إذا أرادوا الحياة، وأن لديهم مقومات بناء حضارة تتفوق على حضارة الفساد والانحراف والطغيان، وأنهم يمتلكون ما يحسدهم عليه ملوك الفرس والروم، ليس من ذهب، ولا فضة ولا جواهر، يكمن في أعماق صدورهم، ومستعدون للتضحية بالغالي والرخيص في سبيل الحفاظ عليه.
تأتي لحظة في المعركة تشعر أن ما ستخسر أكثر مما قد تستطيع تحمله، وأن حياتك رخيصة مقابل النصر، وتشعر أن الخصم لم يدع لك مجالا للتأني أو الرحمة التفاهم أو حتى المشاركة بالحياة بعد المعركة، يتجاوز فيها الخصم كل الخطوط الحمراء، ويقطع كل خيوط الوصل الممكنة في المستقبل، هي لحظة النصر بذاتها، أو الاستسلام والاندثار إلى الأبد.
لم يبق لثوار مصر من ثورة 2011 إلا اسمها, وذكرى تدفعهم لأن يعيدوا غرسها كخنجر أخير في صدر الانقلاب الدموي، فهو لم يدع لهم تصوراً إيجابياً للمستقبل إلا أسوا من حكم مبارك وجماعته، لا دين فيه بل ليبرالية عمياء تسمح بأي تعد على المقدسات من باب الحرية الشخصية، وتسمح بكل مظاهر الفحش والكفر في المجتمع، ولا حرية فيه بل حكم عسكري بغيض توزن فيه الأمور بالقوة ولا يتكلم فيه إلا المطبلون للنظام والداعين له، ولا عدل فيه فالفضاء أداة بيد الحاكم يطلقها على الشعب لينال من أدنى معارضة أو احتجاج، ولا كرامة فيه ولا حرمة لأمٍّ أو أخت أو طالب في حرم جامعته بل لا حرمة لمسجد يعبد فيه الله، والشعب شعبان يرقص أحدهما في الشوارع بزينة من دماء القتلى والجرحى، وآخر إرهابي لا مكان له إلا السجون أو المقابر.
قسم الانقلاب الشعب المصري إلى مؤيد أعمى لشخص السيسي بكل وضاعته وحماقته، وثائر يسعى إلى الحرية بأي وجه من وجوهها، فمنذ أن أعلن عن تنحية النظام الشرعي وهو يسعى لأن يؤسس لنظام فرعوني يحكم به بلا أي معارضة أو حتى ملاحظة، ابتدأه بإعلان تسرب من القلب مباشرة إلى اللسان بأنه يؤيد ويدعم ما لا يرضي الله عز وجل، ثم بمجازر غيبت آلاف الشباب وزرعت في قلوب الملايين ثورة ضده، وقاتل الناس في أقواتهم وأرزاقهم عبر الجمعيات الخيرية التي سيطر عليها في وضح النهار ليدعم اقتصاد الدولة المنهار، وأراد أن يلبس نظامه قناع الشرعية عبر دستور لم يلبِّ تطلعات أحد إلا العسكر ومن سار في غيّهم، وانتهى بالتعدي على القبور في أطراف القاهرة، فأعلن عليه المجتمع بأغلب طبقاته تحت راية الإسلاميين الثورة، لأن جميع أقنعته سقطت ليظهر وجه أبشع من نظام مبارك بسلب أموال الشعب وموارده لصالحه وزمرة من الوزراء والمنتفعين، وأقذر من نظام القذافي لأنه يطعن الأمة في عفة بناتها وشرفهن كما حصل مع بنات الجامعات وغيرهنّ، وأكثر دموية من بشار ليخط أكبر مذبحة في تاريخ مصر الحديث في رابعة والنهضة وما بعدها.
ينزل في 25 يناير 2014 كل من رسم مصر المستقبل حاملةُ لواء النهضة والتقدم، كريمة بقَدرها بين العالم العربي والغربي على حد سواء، وبشعبها الذي ما عاد يساق كما تساق الخراف ويصرخ ضد ظلم وطغيان الداخلية والعسكر بلا مجيب، يأبى حكم فرعون جديد يغتصب الإرادة ويستولي على ثروات البلاد ويشارك الناس في رزقها بغير وجه حق، ويرفض أن يتسول لباسه وطعامه من بقايا الدول التي لأبنائه الفضل الذي لا ينكر في رفعتها ومكانتها، وثروات بلاده توهب بلا ثمن لإسرائيل، يرفض أن يقصى جزء من الشعب لانتمائه السياسي أو الديني أو العرقي.
سينزل في هذا المد الجديد للثورة أكثر مما نزل في 2011 لأن الناس رأت الفرق بين حكومة مدنية تعمل لأجل نهضة الزراعة والصناعة والسياحة والجيش؛ فترسم لذلك الخطط القابلة للتنفيذ وتخطو خطوات ملموسة في شهور معدودة، في جو من المعارضة والتضييق من الداخل والخارج، وتفتح أبواب حرية الرأي للجميع وحكومة عسكرية من أقطاب النظام السابق تنشغل في خطة طريق تطمس على إنجازات سابقتها وقمع المعارضين، وتضييع موارد البلد وأمواله في الداخل والخارج دون أن تعلن عن مشروع تنموي واحد يقدم للشباب أملا في مستقبل أفضل، وتضع الشعب في دوامة إعلانية من التهليل والتطبيل للعسكر تكاد تصل الإجلال والتأليه والعياذ بالله.
سيكون 25 يناير يوما من أيام العرب كيف لا قد كانت ثورة المصريين ملهمة للعالم ولا زالت، ولن يتراجع شعب رأى نور الشمس وقد لبث في غيابات القهر والظلم لستين سنة، وسيقاوم حتى آخر نفس في شبابه ليعود إلى خط النهضة والرفعة، فقد أصبح التراجع والاستسلام خطيئة لا تغتفر ليس بحق مستقبل أبناء مصر وحدها وإنما في حق مليار ونصف مسلم يتطلعون لمصر أم الدنيا، وطن النضال للحرية في العالم العربي.