في السنة النهائية من دراستنا الجامعية جاءت الامتحانات مترافقة مع شهر رمضان، فضل البعض من الأساتذة أن يكون الامتحان الشفوي في الفترة الممتدة من الافطار وحتى السحور، واللجنة الممتحنة تضم في عضويتها من داخل الكلية ومن خارجها، تناول زميلي إفطاره على عجل، كان من الواضح أن القلق يتملكه، فهو على موعد مع امتحان مادة العقاقير، وهي من كثرة ما تعج باسماء لاتينية لنباتات من الصعب هضمها، تجبرك على مغادرة مساحة الفهم إلى جادة الحفظ، المهم دخل زميلي إلى اللجنة الممتحنة متثاقلاً بالخوف الذي سيطر عليه، وليس هنالك خوف أشد وطأة من الشعور بالخوف ذاته، بادره الدكتور بالسؤال عن اسمه وجنسيته، بعد أن نطق زميلي بصعوبة الاسم كاملاً أتبعه بكلمة "فلسطين"، لاحقه الدكتور بسؤال يطلب فيه تحديداً أكثر دقة مستعرضاً قائمة طويلة من المدن الفلسطينية، استرجع زميلي شيئاً من القوة التي فارقته منذ اقترب من قاعة الامتحان وقال بشيء من الزهو من "القدس"، كأن القدس أطاحت جانباً المادة ومعها مهنة اللجنة، تلاحقت الأسئلة تسأل عن أحوال المدينة وأهلها ومقدساتها وما فعله الاحتلال بها، وتفرعت الأسئلة إلى أبجديات الحياة في كنفها، اكتفت اللجنة يومها بما وجهته لزميلي من أسئلة تتعلق بالمدينة المقدسة، واختتم رئيس اللجنة بالقول "ربنا ينصركم"، عادت الابتسامة إلى وجه زميلي وهو يصافح أعضاء اللجنة عله يجد في المصافحة ما يؤكد له صحة ما سمعت أذناه.
التعاطف مع الشعب الفلسطيني تجد له مكاناً أينما وطأت قدماك على أديم هذه الأرض، يختلف من بقعة إلى اخرى وتختلف معها أدوات التعبير عنه، يصل أحياناً إلى الحد الذي يستقي اهميته من قداسة المكان، حيث تفيض فيها المشاعر الروحانية لتطغى على ما سواها، واحياناً له علاقة بالتاريخ واحترام التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني على مدار عقود عدة، وأحياناً يقف البعض بتعاطفه عند القواسم المشتركة في رفض الظلم والقهر والاستعمار باشكاله المختلفة، ليس بالضرورة أن تشترك مع هؤلاء في المعتقدات والأصول العرقية، بل تتسع لتتكئ على القيم الانسانية ومفرداتها.
لوحة التضامن معنا ومع القضية الفلسطينية بكل ما تحمله من ألوان جميلة، وما تفرضه علينا من شعور بالفخر والاعتزاز، تعزز لدينا الأمل بمستقبل أفضل، إلا أن البعض يصرعلى إدخال ألوان قاتمة إليها، هذه الألوان وإن حاول أصحابها استحضار شيئاً من قداسة فلسطين على مسمياتها، إلا أن المؤكد أن حجارة فلسطين لا تمنحهم شرف هذا الانتماء، ولا يمكن لعاقل أن تنطلي عليه تلك الأكذوبة التي طالما تغنى بها البعض بأن الطريق إلى القدس يمر عبر عواصم عربية ثم لا يلبث أن يتوقف فيها ولا يبرحها، ولا يمكن أن نستوعب بأن الطريق إلى القدس يسبقه استهداف أبرياء في هذه العاصمة العربية أو تلك، كيف يمكن لعاقل أن يستوعب أن تفجير سيارة مفخخة في بغداد أو دمشق او القاهرة يمهد الطريق إلى بيت المقدس؟.
المؤسف أن البعض تجرأ على اراقة الدماء، والمؤسف أكثر أن هذه الأفعال عادة ما يتم تغليفها بمسميات مقدسة، والأخطر هم أولئك الذين أعطوا فاعليها صكوك غفران تضمن لهم الجنة، الطريق إلى القدس معروف لمن أراد أن يسلكه، ولا يمكن له باي حال من الأحوال أن يسمح باراقة دم مسلم، فإن كان هدم الكعبة حجراً حجراً أهون من قتل المسلم، فكيف يمكن للبعض ادعاء تعاطفه مع القدس باراقة الدماء البريئة؟، مؤكد أن هذه الوان قاتمة لا علاقة لها بألوان القدس ولا بلوحة التضامن مع أهلها.