زوبعة صيفٍ عارضة وغيمة شتاءٍ عاقرة

بقلم: أحمد إبراهيم الحاج

زوبعة صيفٍ عارضة وغيمة شتاءٍ عاقرة
الجزء الثاني عشر من كنعان في عيادة الطب النفسي
الجلسة السادسة

..................................
على الرغم من التحسن،شعرت بحاجة لزيارة الطبيب.
كي أفك خيوطاً متشابكةً من الضباب،
من أيام الإنفصام السياسي والجغرافي،
منذ حزيران 2006 م.
...................................
بدأت الجلسة السادسة.
قل لي يا كنعان: كيف حالك اليوم؟
الأمور تسير من حسن الى أحسن،
هذا بجهودك معي يا دكتور.
صحيحٌ أن صحوتك يا كنعان جاءت متأخرة،
وترتب عليها خسائر مادية وبشرية ومعنوية فادحة،
لكن أن تصحو خيرٌ من أن تظل نائماً على ألحان الغرائز.
ربما لم يفت الأوان بعد لتدارك "ما تبقى لكم".
....
خبرني كيف تدرجت الأمور الى الأحسن؟
أنني اقتنعت اليوم أكثر من أي يوم مضى،
أنني يجب أن أتصالح مع نفسي.
أتصالح أنا في الواقع المر، مع أنا في الخيال الحلو.
لكن هذا يا كنعان يحتاج إلى
النية الصادقة والعمل الجماعي الدؤوب
وأن تأخذ من حلاوة الخيال بعيد المنال،
لتخفف من مرارة الواقع صعب المنال.
لأن إقتحام الصعب بعلو الهمة مُستطاع.
....
لكي أتصالح أنا في الواقع مع انا في الخيال،
يجب أن أتصالح مع رعيتي.
لأنني أخطأت في حقهم.
أخذتهم رهينة لأنانيتي وغرائزي.
لقد تخلى عني الأصدقاء
في مفترق طريقين للمصالح.
سلكوا طريق مصالحهم عندما تصادمت مع مصالحي.
تركوني على قارعة الطريق غير عابئين
بعهود الصداقة والمواثيق التي كانت تجمعنا.
ضحيت من أجلهم بدموع ودماء أبنائي.
باعوني بثمن بخس في ردة طرْف.
نهش لحمي الأعداء واغتصبوا المزيد.
شمت بي الأقارب والجيران،
علقوا تقصيرهم في نصرتي على شماعة إنفصامي.
…..
بصراحة أنا أخطأت يا دكتور.
قل لي: كيفك أخطأت يا كنعان؟
لم أحسن التعامل مع الأحداث والمتغيرات.
فقدت البوصلة في غياب للعقل.
أنا في الخيال كزوبعة صيف عارضة تذرُّ الرماد في العيون.
أنا في الواقع كغيمة شتاءٍ عاقرة تُؤمل بموسمٍ ماطر.
مِلْتُ حيث مالت الرياح.
تعلقت بحبالٍ من الهواء.
أصدقاءُ الواقع متحيزون للخصم ظالمون.
أصدقاء الخيال إنتهازيون، منافقون.
الأقارب مرجفون، عاجزون، مبلسون.
الأعداء ينهشون لحمي وبالعظم يقضمون.
راهنت على مراجيح الأصدقاءوالأقارب المُسلية.
مرجحوني يميناً وشمالاً وعالياً
أسقطوني فوق كومةٍ من الصخور.
أيقنت الآن يا دكتور،... أن:
"الأصدقاء أفاعي، الأقارب عقارب، العدو فك مفترس".
...
أنا في الخيال،
تذبذبت في مواقفي ما بين صعود وهبوط،
ركبت سنام موجة عاتية من زوبعة صيفٍ عارضة،
صعدت معها عالياً حينما صعدت.
شعرت بالإستعلاء والكبر والغرور.
لم تدم طويلاً في صعودها.
هبطت سريعاً كهبوط قبّرة لعشها في ثقب الأرض.
كانت تحمل صيداً لإطعام أولادها.
لم تجد فراخها بالعش، أكلتها الثعابين.
فأُخبتُّ مع إخباتها.
كانت موجة معترضةً لسياق المنطق والتاريخ.
ومناوئة للحق والحرية والعدل.
طار الغطاء عني، انكشفت في العراء.
...
أنا في الواقع
فقدت أنيابي بعد أن أغمد سيفي.
لم يتبقَّ لي إلاّ ضرسين لقضم طعامي.
قدمت أوراقي في المفاوضات من رماد تاريخي،
رجحت كفة خصمي على كفتي.
أصبحت كالباحث عن اللبن من حليب العصافير.
كأنني أنتظر الغيث من غيمة شتاءٍ عاقرة.
.....
أرى أن طريق العودة صعبٌ على النفس يا دكتور.
لماذا، وكيف ترى الطريق صعباً يا كنعان؟
الهوة واسعة ما بين الخيال الحلو والواقع المر.
أنت تراها واسعة لأنك منفصم
كل طرف منفصمٍ عنك يا كنعان
يفكر في مصلحته الشخصية.
ولو فكرتما في المصلحة العامة
لما كان بالأصل هنالك هوة.
وماذا أيضاً من الأسباب يا كنعان؟
عزة النفس والإعتراف بالخطأ،
الإعتراف بالذنب، وعزة النفس والكبر والعناد،
"متناقضان لا يتفقان عندي يا دكتور".
كذلك الخوف من ملاحقة من أخطأت في حقهم.
عداك عن فقدان هيبة السلطان وامتيازاته ومكتسباته،
كيف سأضيع كل ذلك من يديّ!؟.
أريد التخلص من مشاعر الرهبة من عودة الروح.
وعقدة الذنب التي تعذبني.
ومن سياط كبري وعنادي لنفسي.
أرجوك أن لا تفهمني خطاً يا دكتور.
سياط كبري وليس سياط كيري.
.....
هل لديك النوايا الصادقة والجادة يا كنعان؟
نعم يا دكتور.
هل تعدني بتنفيذ هذه النوايا على أرض الواقع.
نعم، أعدك.
إسمعني جيداً يا كنعان:
هذا يحتاج منك الى قوة الإرادة والشجاعة.
أنا لا أشك في شجاعتك،
لكنني أشك في عنادك وكبرك.
ولن تكون سياط كيري وغيره
فعالة إن رجعت عن إنفصامك.
الإعتراف بالذنب فضيلةٌ يا كنعان
ولا يتناقض مع عزة النفس.
الخليفة الفاروق إعترف بخطئه لامرأةٍ
من على منبر على الملأ.
"أصابت إمرأةٌ وأخطأ عمر".
وهل هنالك نفسٌ أعز من نفس بن الخطاب؟
وهل لك قدوةٌ أفضل من الخليفة العادل؟
إن كنت حقاً تسلك طريق الإسلام كما تدّعي ليلاً نهاراً.
أين نحن من عمر يا دكتور!
قل لي:ما هو السلطان الذي ستفقده؟
وهذا من الأسباب الجوهرية لانفصامك.
هل هو سلطان كاملٌ ومستقل؟
لا يا دكتور. هو سلطانٌ مغتصبٌ وفوقه سياط المحتل.
هل تملك حريةً كاملة في إطار هذا السلطان؟
وهل تعبر صراحةً عن تطلعاتك وأمانيك؟
بالطبع لا.
إذن هو سلطان هش وواهم وسابقٌ لأوانه،
كالثمرة الفجة، تزكم الأنوف وتجفف الحلوق وتُجرِّحُها.
كالمولود الخداج يحتمل الحياة والموت في أي وقت.
عشعش حب السلطة في وجدانك وطربت على أنغامه.
في غيابٍ لعقلك وضميرك وحضور لغرائزك وشهواتك.
قل لي:
ماذا تُسمي حالك المنفصم عقلياً وجسدياً يا كنعان؟
إنه الجنون بعينه يا دكتور.
كانت تلك الكلمة ثقيلة على لساني،
ولكنك إعترفت وقلتها أنت بعظمة لسانك.
خذ هذا البيت من الشعر لعلك تتعظ به:
"لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلها ولكن أحلام الرجال تضيق".
أفِق من حلمك في يقظتك يا كنعان،
عد الى عقلك ورشدك قبل فوات الأوان.
ما تراه من حلمٍ في الليل هو أضغاث أحلام.
قد تعجبك وقد لا تعجبك.
قد تتذكرها، وقد لا تتذكرها، وفي النهاية تنساها.
ولكن أحلام اليقظة هي المشكلة.
عش واقعك ولا تهرب منه لأحلام اليقظة،
لتقنع نفسك أنك على صواب.
أنت مخطيء بحق نفسك،
وترتكب الخطيئة بحق ذويك.
إتق الله في نفسك وفي رعيتك.
"العاقل طبيب نفسه يا كنعان".
لم يعد لدي ما أقوله لك، لذلك إنتهت جلسات العلاج.
أتمنى أن نلتقي ثانية وأنت معافى.
تزن الأمور بعقلك لا بعواطفك وغرائزك.
لتتلاعب بعواطف ووجدان العامة من رعيتك لتخدعهم،
فيتبعوك على ضلال.
تحمل وزرك الثقيل مع أثقال أوزارهم الباهظة.
حالك كحال قابيل يتحمل وزر كل قاتل الى يوم الدين.
وَدَّعني بحرارة وتمنى لي الشفاء.
شعرت أنه كان قاسياً معي لكنه مشفقٌ لحالي.
.....

بقلم أحمد ابراهيم الحاج
26/1/2014 م