قلت للسجان "أفي" في سجن نفحة الصحراوي: سيأتي السلام، وستنكسر أقفال السجن، ونعيش على هذه الأرض في وئام. فرد السجان "آفي" قبل أكثر من عشرين عاماً؛ أثناء انعقاد مؤتمر مدريد للسلام، وقال: أتمنى أن يتحقق السلام سريعاً، فقد استلفت مالاً، واشتريت لنفسي بيتاً في إحدى مستوطنات الضفة الغربية.
قلت للسجان "آفي": وكيف تشتري بيتاً في مستوطنة تعرف أنها زائلة.
قال السجان "آفي": أعرف أنها زائلة، ولكنني اشتريت البيت كي أحصل على تعويض مادي كبير حين يصير إخلاء المستوطنة بعد التوقيع على اتفاقية السلام.
هكذا كان يفكر غالبية المستوطنين اليهود، هكذا كان ظنهم السيئ بالمستوطنات، وما خطر في خيالهم أن القيادة الفلسطينية ستعترف يوماً بمبدأ تبادل الأراضي، لتعترف بوجود المستوطنين على أرض الضفة الغربية، بعد أن اعترفت القيادة الفلسطينية في أوسلو بوجود إسرائيل على أرض فلسطين المحتلة سنة 48.
استرجعت حواري مع السجان "آفي" وأنا استمع لنتانياهو في مؤتمر دافوس، في يناير 2014، وهو يقول: إنني لا اعتزم اخلاء أي مستوطنة اسرائيلية. قلت ذلك في الماضي واكرر ذلك اليوم، لا انوي اخلاء أي مستوطنة او "اقتلاع" أي مستوطن إسرائيلي، وإن مسألة التوقيع على اتفاق مع الفلسطينيين غير واردة وحتى على اتفاق اطار.
إن هذه الصراحة في التعبير عن الموقف الصهيوني، والتي صدرت عن نتانياهو بعد لقائه مع الوزير جون كيري، لا تعكس ثقة اليهود بأنفسهم، ووثوقهم برسوخ قدمهم الاستيطانية الصهيونية على أرض الضفة الغربية، ولا تحاكي اطمئنان اليهود على مستقبلهم في المستوطنات، التي يحسبونها حقاً تاريخياً لهم، إن تصريحات نتانياهو تعكس التحول الاستراتيجي في مزاج اليهود ونفسيتهم، التي باتت مقتنعة تمام الاقتناع ان كل ما يطلبه اليهودي سيتحقق، بل أن كل ما يمكن أن يتمناه اليهودي، أو يحلم فيه سيتحقق في النهاية، والفضل في ذلك لا يرجع إلى ذكاء اليهود، وقوة إرادتهم، وإنما الفضل يرجع إلى غباء القيادات العربية التي سهلت لليهود تحقيق أحلامهم، وتثبيت أقدامهم.
فماذا تبقى للمفاوضين الفلسطينيين بعد كل هذه الصفاقة والوقاحة الصهيونية؟
قد يقول المدافعون عن نهج المفاوضات: إننا لا نريد أن نتحمل مسئولية فشل المفاوضات، وإننا نريد أن نكشف حقيقة العدوان الصهيوني للرأي العام العالمي، وقد يقول بعضهم: إننا لا نمتلك الحيلة أو الوسيلة إلا طريق المفاوضات الصعب، وقد يقولون: انظر حال العرب من حولنا، وانظر حالنا، فالانقسام سبب نكبتنا وخراب بيتنا.
على أولئك المدافعين عن المفاوضات جاء الرد الحاسم من عضو الوفد المفاوض المستقيل الدكتور محمد شتية، الرجل الذي تغلب انتماؤه للوطن على انتمائه للقيادة، فقال كلمة حق عكس فيها مشاعر الشعب الفلسطيني؛ الذي بات لا يحلم بالخلاص من المفاوضات، وإنما أضحى يتمنى التخلص من قادة خط المفاوضات الذين ضيقوا متسع العمل المقاوم، وحشروه في ملف بائس على طاولة المفاوضات تنمو عليه الطحالب، وتفوح منه رائحة العفن.
من المؤكد أن السجان "آفي" يعيش اليوم في مستوطنة، فقد جعلته قيادتنا مستوطناً.