نحن بحاجة الى وقفة مع الذات

بقلم: عباس الجمعة

في مرحلة دقيقة وفاصلة ندرك تماماً بأن المسؤولية تكليف وليس تشريف ، ومن هنا نقول نحن بحاجة الى اشخاص يتمتعون باخلاق ثورية وبحس وطني وقومي والحفاظ على الجهود والطاقات لحماية مسار الثورة الفلسطينية من أي محاولات لتشتيت قواها واستهدافها في التوقيت والظرف والمكان الخطأ وفي غير صالحها وبما يخدم الأعداء والخصوم جميعاً ، ولنكن على ثقة تامة بأن فصائلنا نتيجة تجاهل العديد من القيادات والكوادر لهويتهم الفكرية فهم يساهمون بقصد او غير قصد بتجزئة التنظيم الواحد والتفتيت والشرذمة وتشتيت القوى وخلق إصطفافات جديدة بعضها يقوم على العلاقة الشخصية والعائلية والعشائرية تقوض مقومات وركائز وحدة الهدف التي انطلقت من اجله الثورة بدلا من السعي من اجل النهوض بالنضال الوطني الى المكان الصحيح .

ان من يتفحص مسارات التجربة الوطنية الفلسطينية , يمكن ملاحظة أن التأثيرات الناجمة عن هذه الإشكاليات والالتباسات , تفاقمت كثيرا بسبب طريقة العمل الوطني في الفصائل الفلسطينية, وسيادة الفردية والعفوية , وضعف الأطر والمؤسسات والعلاقات الديمقراطية في العمل الفلسطيني علي مختلف الأصعدة وهي عوامل حالت دون إمكان تطور العمل الفلسطيني في بعده الكياني أو التحرري .

ومن هنا عندما انتميت للثورة الفلسطينية عام 1972 في صلب التحولات التي شهدتها الحركة الفكرية والتجربة النضالية العربية ولقناعتي بالقضية الفلسطينية كقضية عربية وكعروبي شديد الالتصاق بفلسطين ، لم اكن اتوقع ما رايته في المسيرة والتجربة النضالية وخاصة في مرحلة معينة اردت فيها تصويب اﻷخطاء والثغرات فوجهت لنا الاتهامات عام 1990 ، ولكن للاسف وجهت بطرق واساليب لم تمت للنضال بصلة ، صحيح ان البعض اخذها فرصة وما زال يتحدث فيها، رغم الاحترام الذي اكنه لرفاق مهما كان وجه الاختلاف معهم حيث اصبح اكثر من علاقة اخوية, فالكثير من التناقضات التي نعيشها ما هي إلا اجترار لمرارات عشناها في عهد النضال , وربما كلمة قيلت او موقف اتخذ في الماضي مازال يرخي بظلاله على حياة الانسان، لان فمن فبركه هو معروف ولكن ليس له علاقة بالنضال ، وخاصة عندما نفتقد الى مسالة الديمقراطية وحرية الرأي في النقاش ، إلا أننا نجد البعض وللأسف الشديد يحاول الاستبداد برأيه وفرضه على الآخرين ، معتقداً أن رأيه هو الأصح والأفضل، حتى أنه لا يفسح المجال للآخرين للتعبير عن وجهة نظرهم وآرائهم، غير مبالي ولا مراعي لأفكار وآراء الأطراف الأخرى في النقاش، لان الأحقاد والجهل عند البعض لا يحترم حياة وكرامة وحقوق الناس ، هذا ما حصل معي ايضا ، ولكن رغم قناعتي بأن طريق النضال الوطني الديمقراطي هي طريق تحمل الكثير من المعوقات ، فالاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية كما هو معروف، فهذا النوع من الاختلاف يلزم أن لا يكون مدعاة للعداوة والكره والحقد بل هو مدعاة لتنمية الأفكار والآراء وتكامل العقول وتواصلها، لذا فإنني أعيش وأحس بان قضية فلسطين هي التي تشكل عنواني ، كما الكثير من المناضلين العرب الذين استشهدوا او ما زالو على قيد الحياة ياخذون من تجربتهم الايجابية تعبير عن العمق العربي للثورة ، مما ينعكس إيجابا على معنويات الشعب الفلسطيني، ويشعر بأنه ليس وحده في معركة النضال، بل هناك شعوب مؤمنة بقضيته وتساعده وتحتضنه، ومستعدة للتضحية في سبيل فلسطين.

إن الرافعة الحيوية التي يجب التمسك بها بقناعه وإيمان هي حماية الثورة الفلسطينية كفكرة وممارسة وتفعيل دورها والتصدي لكل الظواهر السلبية في الفصائل وتجار المواقف البائسة ، فنحن عندما نتحدث عن ذلك لم نكن ضيوف فيها ، فاي مناضل خاض تجربة النضال في فصائل الثورة الفلسطينية ، عليه ان يقف ويتحدث بصراحة مهما كانت الضغوط والأثمان الباهظة والتضحيات الكبيرة ، ويجب أن يواجه كافة السلبيات والاخطاء واصحاب المصالح الشخصية ، وان سعى البعض لاحتكار ومصادرة إرادة ونضال الاخرين بصورة انتهازية ، وانطلاقا من خطة مدروسة بهدف إثارة النعرات التنظيمية والنزعات العصبوية، وترويج الشائعات المغرضة والمفبركة ، تتطلب المزيد من الحرص والحذر والجدية في التعاطي مع المستجدات واستيعاب التطورات.

وهنا لا بد من ذكر اقوال بعض القادة الشهداء وفي مقدمتهم الرئيس الشهيد الرمز ياسر عرفات ، فهو زعيم فلسطيني متميز ملأ صفحات كثيرة في تاريخ النضال الوطني ، حيث كان قائداً وطنياً فلسطينياً وقومياً عربياً وثائراً أممياً، حمل غصن الزيتون بيد وبندقية الثائر باليد الاخرى ليؤكد للعالم عدالة قضية شعبه.

لقد وعى الرئيس الشهيد ياسر عرفات جيدا أبعاد النكبة التي حلت بشعبه عام 1948م، عمل بكل جهد كمهندس فلسطيني على تأسيس اتحاد طلاب فلسطين وبعد ذلك اسس حركة فتح التي شكلت انطلاقة رصاصتها الاولى عام 1965 عنوان الكفاح المسلح وبدأ النضال رافعا شعلة أضاءت للشعب الفلسطيني طريقا حالك الظلام نحو فلسطين، استطاع أن يعيد القضية الفلسطينية إلى فلسطينيتها، بعد أن غلفتها شعارات التيه والضياع ردها من الزمن، ظاهرها رحمة وباطنها المؤامرات والدسائس.

لقد استشهد ياسر عرفات بعد حصار واغتيال بسبب تصميمه على مواصلة طريق النضال ، طريق التضحيات لاسترداد فلسطين، وكان لهذا الاستشهاد اثر كبير في تاريخ الشعب الفلسطيني.

وحتى اعطي شهادة حق لما قاله الشهيد القائد الكبير الامين العام ابو العباس في مقابلة مع جريدة الغد الناطقة بلسان جبهة التحرير الفلسطينية ان التجربة الجبهوية تكريساً لما هو قومي بدءاً من الوطني ومن خلال التجربة ازدادت قناعتنا أنه كل ما تعززت إنجازاتنا الوطنية وكلما نجحنا بتوحيد جهدنا الوطني كلما نجحنا أكثر في التأثير الإيجابي على المدى القومي، ولكننا في ذات الوقت كنّا ندرك أن المفهوم القومي، هو المفهوم الجماهيري الواسع وليس المفهوم الرسمي السائد، والتي كانت الجبهة في جانب من جوانبهاً رداً على سلبيته، ولم يتزعزع إيماننا بقدرات أمتنا العربية وكون فلسطين جزء لا يتجزأ من الوطن العربي والشعب الفلسطيني جزء من أمته العربية، وأن على الشعب الفلسطيني أن يكون الطليعة الكفاحية للأمة العربية من أجل حل القضية الفلسطينية وإسنادها، ومن هنا نرى أن انطلاقة الجبهة كانت تعزيزاً للمفهوم القومي ومحاولة رائدة للصهر بين ما هو وطني وما هو قومي، والذي قال لم اخش الموت فكيف اخشى الاعتقال، والحالة التي اعيشها هي جزء بسيط من حالة شعبي في فلسطين، وأرى ان ما يعانيه مناضلونا وقيادتنا الوطنية في فلسطين أشد مما انا فيه الآن، وكل ما اتعرض له الآن لا يساوي يوما من الحصار الذي تعرض له الاخ القائد ابو عمار ولا يساوي دم طفل فلسطيني شهيد، نحن نتوقع كل شيء ونعد حساباتنا لكل طارئ وهذا لن يعيق نضالاتنا او يؤثر في قرارنا السياسي، واضاف أن "أمريكا هي رأس الحية" و أن الدعم المطلق الذي تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية للكيان الصهيوني يشكل عامل الارتكاز الرئيس للكيان ويدفعه للاستمرار في عدوانه على البلدان العربية وخصوصا عدوانه المستمر واحتلاله لفلسطين.

وكذلك اتوقف امام اقول القائد الكبير حكيم الثورة جورج حبش الذي آمن بالنضال الوطني التحرري، والقومي الوحدوي والنضال من أجل حق شعبه في تقرير المصير وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين لديارهم، وقال لا أظن أن الأمة أحوج إلى القومية أكثر منها الآن، خاصة في هذه المرحلة الحرجة من حياة الأمة العربية، بعد أن تكالب عليها الأعداء، والحاقدين ، لم التقي الدكتور جورج حبش إلا في مناسبة وطنية في صور، وظل شعوري قويّاً بأنه افكار القائد الحكيم تمثل العروبة في قلب الثورة ومنظمة التحرير، والذي ظل مخلصاً للخيار القومي العربي في رؤيته إلى قضايا الصراع العربي – الصهيوني ومستقبل قضية فلسطين.

مما لاشك فيه شئنا أم أبينا أن هناك كان قادة استثنائيين في تاريخ الشعب الفلسطيني، أولئك القادة الذين أنجبتهم الثورة الفلسطينية،قادة كانوا يحتكمون في خلافاتهم الى المصالح العليا للشعب الفلسطيني،رضعوا لبان الحب والعشق الفلسطيني، ونجومه المتلألأه في السماء، تعانق إيمانها بحتمية النصر وعدم الاستسلام أو الانكسار، وكوكبا تسلح بإرادة القوة التي لا تعرف الانهزام، ولا تستكين للخضوع، عاشوا فصول التشرد واللجوء، أولئك الذين شدوا الرحال بعيداً عن الوطن، عاشوا أسفار التشتت ، والتهجير وخطوا ملامحها بين أزقة المخيم، ودونوا صرخات أطفالها بإصرار على العودة والانتصار ، كان عشقهم للوطن والثورة ، كانوا يحيطون المناضلين بالحب والدفء لا نجد اليوم مثيلاً لهم، فهم كانوا ينبوع من الحنان لا ينضب، وسماء من المحبة والتسامح لا حدود لها ، وحري بنا أن نقرأ سيرتهم لنعرف كيف يكون النضال حقيقة.

وهذا يدعونا إلى مراجعة تجربة الثورة الفلسطينية، وتقييمها سلباً وإيجاباً، استجابة لنضال الشعب الفلسطيني الطويل وتضحياته، وإخلاصاً لقادة ملكوا الرؤية الثاقبة، والحس النقدي، والنفس الكفاحي الطويل، لاننا في مرحلة تحرر وطني تتطلب التمسك بالمقاومة بكافة اشكالها باعتبارها حق مشروع لكل الشعوب المحتلة لمواجهة محتليها، كما يتطلب ذلك التمسك بالقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية باعتبارها تشكل أكبر سند وأفضل تكتيك يمكن أن نستند له في مواجهة مرحلة الانهيارات الصعبة.

فهذه المسيرة الطويلة الشاقة الحافلة بالكفاح البطولي الصادق، والحافلة بالإنجازات وكذلك الإخفاقات، والغنية بالدروس والإستخلاصات والعبر تتطلب إعادة الاعتبار للبعد الشعبي لحركة النضال الوطني , إذ لم تعد هذه الحركة حكرا علي المنتمين للفصائل من المتفرغين أو العسكريين , بعد أن احتضنها المجتمع الفلسطيني اليها وخاصة الشباب، هذا المجتمع وهؤلاء الشباب من حقهم النضال بمواجهة حالة الترهل والمحسوبية والانتهازيين اصحاب الامتيازات الشخصية التي تتناقض بالمطلق مع اقكار الثورة ومواقفها التي فرغت من مضمونها لعدم ترجمتها على الأرض.

ان خطابات المديح والاشادة بالشخص في العمل الفلسطيني لا يمكن ان تعطي نتائج كلموسة في حركة النضال الوطني التحرري ، فنحن اصبحنا نفتقد للتقاليد الحديثة في العمل السياسي ، وخاصة ان القضية الفلسطينية اولا هي قضية الشعب الفلسطيني وقضية قومية وقضية عالمية ، وهذا يتطلب اذا كنا نشيد علينا ان نشيد بالشهداء الذين قدموا انفسهم من اجل تحرير فلسطين ، وان نتعاطى بمسؤولية مع المعطيات وموازين القوي , والمرتكزة علي العلاقات الديمقراطية والقيادة الجماعية والمشاركة السياسية كوننا ما زلنا في مرحلة النضال الوطني واعتبار القرارات الوطنية المصيرية ليس شأن يخص قائد والمحيطين به ، اوحقلا يخص النخبة السياسية , العائلية أو الفصائلية , أكثر بكثير من كونها شأنا يخص المجتمع الفلسطيني.

وامام ما تتعرض له القيادة الفلسطينية من ضغوطات بسبب رفض الاملاءات الإسرائيلية والأمريكية وخاصة ما يسمى الاتفاق الانتقالي ، هذا الامر يتطلب العمل الفوري لانهاء الانقسام وتعزيز الوحدة الوطنية والتوافق على استراتيجية سياسية وكفاحية مشتركة تستند لكافة اشكال النضال, وخاصة بعد ان اثبتت المفاوضات مع الكيان الصهيوني برعاية امريكية بانها لا يمكن ان تحقق شيء لأن أميركا لا يمكن أن تكون محايدة في الصراع ، لأن المصالح الأمريكية مرتبطة مع دولة الكيان والطرفان يسعان لتحقيق مصالحهم في الشرق الاوسط الجديد كما يطلقون عليه الآن ، وان كيري يسعى لضرب ركائز القضيه الفلسطينيه، القدس واللاجئين من جهه وتسويق "يهودية اسرائيل"والاخطر من كل هذا تصفية القضيه الفلسطينيه بكاملها.

وفي ظل ما يجري لا يمكن ان نخفي المخاوف في أوساط اللاجئين الفلسطينيين علي حقوقهم التاريخية وخاصة حقهم في العودة وعلي مكانتهم في العمل الوطني الفلسطيني , فالبعض لا يعلم ان حق العودة حق مقدس رغم واقع الأحداث الجارية، في الساحة الفلسطينية والعربية، وما يتعرض له اللاجئون الفلسطينيون، يعيد لمشكلة اللاجئين مركزيتها في القضية الفلسطينية، وخاصة ما يتعرض له اللاجئون الفلسطينيون في سوريا اليوم، من عذاب وتهجير، وما تعرض له اللاجئون سابقاً في العراق وليبيا والكويت وقبله في لبنان في تل الزعتر والنبطية، وبقية مناطق اللجوء، جميع هذه الأحداث تبرز قضية اللاجئين كقضية (عضوية، مركزية) في صلب القضية الفلسطينية، بل أكثر من ذلك وضع اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة وفي الضفة الغربية، فلا زالت معاناتهم مستمرة، وتتفاقم عاماً بعد عام، كل هذا يسقط (وهم الحلول) غير الإبداعية المقترحة من قبل بعض القوى الإقليمية والدولية، المتواطئة مع تطلعات الكيان الصهيوني، بإسقاط مسؤوليته أولاً عن مأساة اللاجئين، وثانياً: إسقاط حقهم في العودة إلى مدنهم وقراهم التي هجروا منها.

ومن هنا ارى إن توطين اللاجئين الفلسطينيين حيث هم أصبح ضرباً من الخيال، وكذلك البحث عن منافي دولية جديدة وبعيدة عن فلسطين أيضاً ضرب من الخيال، يضاف إلى ذلك استحالة أن تكون العودة فقط مقتصرة على مناطق السلطة والمحددة بقطاع غزة والضفة الفلسطينية، وما الإضرابات والمظاهرات التي شهدتها مخيمات غزة والضفة في الآونة الأخيرة إلا برهان على ذلك , ورغم أن قضية اللاجئين الفلسطينيين مرت في أخطر مراحلها ومحطاتها في ظل مشروع التسوية، فإنها ما زالت تتصدر رأس الثوابت الوطنية الفلسطينية، وخصوصاً مع تلاشي آمال البعض في تحقيق تسوية مع الكيان الصهيوني بعد وصولها الى طريق مسدود .

إن منظمة التحرير التي أسست استجابة لما لحق وألم بالشعب الفلسطيني من تهجير وقتل وتدمير عام 1948 ، ومن اجل جمع الشعب الفلسطيني في كل مناطق تواجده في بوتقة عمل وطني واحدة من اجل تحرير الأرض من الاحتلال ، هذا الامر يستدعي التركيز على تفعيل وتطوير مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية من خلال اعتماد بنية مؤسساتية تمثيلية تقوم على إشراك مكونات الشعب الفلسطيني في إدارة الشأن والمصير الوطني عبر منح استقلالية واسعة لكل من المكونات الرئيسة للشعب الفلسطيني في تحديد أشكال النضال

ختاما: لا بد من القول إن المرحلة هي مرحلة حاسمة في النضال الوطني الفلسطيني تتطلب الحفاظ على المشروع الوطني ، باعتباره مشروع جامع شامل لكافة اهداف وتطلعات الشعب الفلسطيني المستقبليه الذي تتحقق فيه حريته واستقلاله وعودته وتعزيز مبدأ الحرية والعدالة الاجتماعية.