كان الراكب بجانبي في الطائرة رجلاً يبدو في بداية الأربعينيات من عمره، عرفته على نفسي، فلسطيني من الأرض المحتلة في السنة الرابعة من دراستي الجامعية بكلية الصيدلة في المملكة الأردنية الهاشمية، وأنه نظرا لإغلاق المعابر والتضييق علينا، وخشية أن تضييع علينا فرصة إكمال دراستنا، فإنني قررت أن أقضي إجازتي في جمهورية مصر العربية، وحيث يوجد بعض من أسرتي فيها.
كان ذلك في منتصف العام 1996، وكانت الطائرة متجه من عمان الى القاهرة، وبالمقابل عرفني جاري على نفسه، بأنه فلسطيني من اللاجئين الذين طردوا من أرضهم في العام 1948، وانه يعمل في شركة خاصة بالقاهرة، ووالده قد توفي في الحرب الإسرائيلية على المخيمات الفلسطينية في لبنان 1982، حيث كان والده يعمل في صفوف الثورة الفلسطينية.
عرفت من حديثه أنه فلسطيني يتنقل بين العواصم العربية والأجنبية بحكم عمله، دمت الأخلاق، مثقف، وعميق الانتماء لقضيتنا ولهموم شعبنا.
دقائق وقد بدأنا في الاندماج معا، والحقيقة ان هذا الاندماج يتضح دائما حين نكون في الغربة بعيدا عن الوطن، ننسى فيه خلافاتنا وتضارب وجهات النظر، ويصبح العامل المشترك هو الوطن "فلسطين"، تحدث جاري مطولا وقد كانت خطوط القلق والألم تسيطر على أفكاره، ووجدت أن كلماته قد امتزجت بحرقة بدت في عينيه، حين قال : " الإسرائيليون لا يؤمنون بالسلام، وغير جاهزون له، وقيادتنا الفلسطينية انتقلت لتخوض معركة الدولة والعودة من فوق الأرض المحتلة، وصورة شعبنا وقياداتنا وشبابنا والختيار "يقصد أبو عمار" هي صورة مشوهة وسوداوية وبشعة في أذهان الإسرائيليين، ويزداد الأمر صعوبة الأساطير التي يروجونها ويختلفون على صحتها، لكنها تعتبر من وجهة نظرهم ضرورة للبقاء، وينشرون الذعر والكراهية بين شعبهم تجاه كل ما يحيط بهم، ولهذا علاقة بواقع احتلالهم للأرض وتشريد الناس."
ومما أذكر مما قاله جاري بالطائرة: "حكايتنا الفلسطينية ليست قصة عواطف ولاجئين، إنها تاريخ بعيد، وشعب يرفض الاحتلال ويرفض أن يكون من الغوييم، ويرفض الأساطير وتزييف التاريخ، لنا الأرض ولنا الحق وسيكون لنا دولة ومصير وسيعود اللاجئون".
وأذكر مما قلته له : " إن الاحتلال يعاملنا كما يتعامل مع السجين المكبل، فنحن ننتظر شعاع الشمس، ونعرف أن الصراع طويل، وعلينا أن نتمسك بالأمل مهما كان ضئيلا، وعلينا ألا نستسلم لليأس".
وكان رده مختصرا وعميقا :" المقاتل يخوض المعركة وهو يعرف أنه ربما يقتل قبل أن تشرق الشمس، وربما يعتقل، وربما يتحول إلى معاق طيلة حياته، ويستمر في معركته حتى النهاية، نحن شعب مقاتل، ربما يأتي من تشرق عليه الشمس، وربما تشرق علينا في النهاية، لكن الشمس موجودة كما الحرية كما الأرض كما نحن كما هذه الطائرة التي تأخذنا في رحلة وربما لا نصل، ولكنها أقلعت، ونقول أقلع الحق الفلسطيني ويجب أن يصل".
وفي مطار القاهرة تعانقنا، وأصرَّ أن يعطيني هدية صغيرة، كانت عبارة عن معلقة ذهبية على شكل خارطة فلسطين تبرز منها الأماكن المقدسة، ولقد فقدتها قبل أكثر من احد عشر عاما فجر يوم الجمعة بتاريخ 8-3-2002، حيث ذهبت جريا على الأقدام للمستشفى التي أعملها بها بعد إخباري بأن جنود الاحتلال قد ارتكبوا مجزرة في المنطقة الشرقية ليتضح تباعا أن ستة عشر فارساً استشهدوا وعلى رأسهم الشهيد اللواء الركن : احمد مفرج “أبو حميد” قائد قوات الأمن الوطني في المنطقة الجنوبية، والشهيد رياض القصاص أبو عمار وكوكبة من خيرة أبناء المنطقة الشرقية ومحافظة خان يونس .
هذا قدرنا نحن أبناء الشعب الفلسطيني، وقد كتب علينا أن نداوي جرحانا وندفن جثمان شهداؤنا ونتقبل فيها مشاعر العزاء والمواساة وأن نستمر في الطريق إلى أن يعود الوطن.