تسعى الدول المتقدمة والنامية على حد السواء لتحقيق معدلات معقولة من النمو الاقتصادي من خلال العمل على تحسين مستويات المعيشة, ورفع متوسط نصيب الفرد من الدخل وزيادة الإنتاج, ولا قيمة للنمو الاقتصادي إذا لم يشعرُ به كل مواطن بشكل ملموس ومادي عبر تحقيق رفاهيته وحصوله على احتياجاته ويُشبع رغباته سواء من المأكل أو المشرب أو حتى من مستويات معينة من الصحة والتعليم واقتناء جزءاُ من التكنولوجيا وغيرها, وتعددت النظريات المفسرة للنمو الاقتصادي وجميعها اتفقت على تحقيق الزيادة في الناتج وفي متوسط نصيب الفرد من الناتج, ولكن الاختلاف يكمن في الوسائل والإجراءات المتبعة لتحقيق ذلك, وفي الأراضي الفلسطينية لم يتم التطرق لوسيلة التمويل الأصغر كأداة لتحقيق النمو الاقتصادي وتخفيف حدة الفقر والبطالة , وعلى الرغم من أن العديد من الدول قد طبقت هذه الوسيلة وحققت نجاحات كبيرة وكانت محطة اهتمام الاقتصاديين بالعالم وحققت نتائج مرجوة من خلال تخفيف حدة الفقر وخفض معدلات البطالة وتقليل عدد العاطلين عن العمل وسارعت في عمليات التنمية الاقتصادية وبوتيرة متباينة, ومن أبرز تلك التجارب ماليزيا وكوريا الجنوبية والبرازيل وبنجلادش, فبعدما وصل عدد الفقراء في البرازيل 44 مليوناً عام 2003 انخفض إلى 29.6 مليوناً في العام 2009 , وانخفض معدل الفقر من 28.1% عام 2003 إلى 15.4% عام 2009وهذا بسبب تطبيق برنامج صفر جوع التي أقرتها الحكومة البرازيلية في العام 2000 وتم العمل به فعلياً في العام 2003 , وهذا البرنامج الاقتصادي ذو الطابع الاجتماعي اهتم بالفقراء وقدم التمويل اللازم وإن كان صغيراً لبعض المشروعات الزراعية والصناعية إلا أنه استطاع تحفيز النمو الاقتصادي وتقليل حدة الفقر, هذه الوسيلة التمويلية استطاعت إعادة توزيع الدخل لصالح الفئات الاجتماعية الأكثر تضرراً من خلال برنامج الإصلاح الزراعي ودعم المنتجين وصغار الحرفيين , وبهذه التجربة حدث للاقتصاد البرازيلي نقلة نوعية من بلد نامي زراعي إلى عمود رئيسي من أعمدة مجموعة البر يكس الاقتصادية والتي تضم دولاً كالصين وروسيا والهند وجنوب أفريقيا وهي التكتل الاقتصادي التي ينُظر له بالتكتل الأكثر تأثيراُ في الأعوام القليلة القادمة والتي تنُذر بتعدد الأقطاب عالمياً بعد أحادية القطب والتي تميزت بسيطرة وهيمنة اقتصاد الدولار الأمريكي على العالم, وتجربة الدكتور محمد يونس ببنجلادش في التمويل الأصغر هي التجربة الأكثر نجاحاً لغاية الأن في تحفيز النمو الاقتصادي والقضاء على الفقر والبطالة,
وبدأت تلك التجربة بإنشاء البروفسور محمد يونس بنك جرامين لإقراض الفقراء وتنمية المجتمعات الفقيرة في العام (1976) وتقديم قروض صغيرة للفقراء وخصوصا النساء لتمويل مشاريع متناهية الصغر لم تتجاوز 200 دولار في المجال الزراعي والمهن والتصنيع وبدون أي شروط وبدون ضمانات ولم يأخذ بعين الاعتبار توفر الجدارة الائتمانية للمقترض والتي غالبا ما تكون منخفضة جدا للفقراء ومحدودي الدخول الذين يفتقرون للإمكانيات المادية التي تساعدهم في إنشاء مشاريع تخرجهم من دائرة الفقر, وتقوم فلسفة محمد يونس على أن الفقراء يحتاجون القليل من المال ليصبحوا منتجين وفاعلين في مجتمعاتهم وبالتالي ينتقلوا من مستوى( دخل منخفض _ادخار منخفض _استثمار منخفض) إلى (دخل منخفض _توفير _ استثمار_ دخل أكبر)
ومع الارتفاع الكبير لمعدلات الفقر والبطالة في الأراضي الفلسطينية ونظراً لعدم نجاح السلطة الفلسطينية ومنذ نشوءها عام 1994 على أثر اتفاقية أوسلو في العام1993 والتي وقُعت بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في تحقيق نموذج تنموي حقيقي , فإن ما يحتاجه الاقتصاد الفلسطيني لإحداث تحفيز اقتصادي هو القضاء على معضلة الفقر والبطالة كخطوة أولى وضرورية, وذلك بتخفيف معدلات الفقر والبطالة لحدود متدنية ولن يتم ذلك بزيادة حجم المساعدات الخارجية ولا بزيادة نصيب الشرائح الاجتماعية في موازنات السلطة وإنما ببناء اقتصاد حقيقي منتج من خلال إدخال الفقراء ومعدومي الدخول بأسواق العمل من خلال تقديم قروض ميسرة وبلا فائدة مئوية وبفترات سداد طويلة وبإشراف مستمر من جهة رسمية لتلك المشروعات, والتي من الأفضل أن تكون في النشاط الزراعي والصناعي والتجاري, وتلك الأنشطة المنتجة تستطيع أن تضيف قيماً حقيقية في الاقتصاد الفلسطيني وتحد من مشكلة البطالة, وتوفر دخول جديدة لفئات معدومة الدخول وبهذه الدخول تدور عجلة الإنتاج والاقتصاد بسبب الميل الحدي المرتفع لهذه الشرائح ولطلبهم المستمر والمهم وبهذا الطلب يًحفز الاستثمار من جديد وتزيد الإنتاجية , وأيضا وإضافة لأسلوب التمويل الأصغر والذي يتراوح قيمت من 1000-300 دولار ممكن أن يساهم وبشكل كبير في النمو الاقتصادي في الأراضي الفلسطينية وهذا يتطلب مجدداً من السلطة الفلسطينية الاهتمام بذلك, فعلى الرغم الاهتمام المتزايد بالشرائح الاجتماعية وخصوصاً في الأعوام الثلاثة الأخيرة ومنها ما يُصرف من مخصصات الشؤون الاجتماعية كل ثلاثة شهور وهي المخصصات الإغاتية ولعشرات الألاف من الأسر والتي تعاني من الفقر والفقر المُدقع, فإبمكان الوزارة أن تؤسس مجموعة من المشاريع سواءاً الصغيرة أو المتوسطة وتًدخل هؤلاء الأسر في هذه المشاريع وتحقق عائداُ اقتصاديا أكبر, وبالإضافة لتلك المشاريع أيضا يتوجب إنشاء صناديق لجمع صغار الودائع من صغار المدخرين وبهذا يتم حشد الموارد المالية المحلية وتوظيفها في مشاريع حقيقية وإنشاء تلك الصناديق سهل ولا يحتاج لتكاليف باهظة من خلال ربطها بمكاتب البريد وعمل حسابات توفير تبدأ بأقل الشواقل وتكون حماية للأجيال القادمة .
المساعدات الخارجية لا يمكن لها أن تحل مشكلة الفقر بشكل جذري ولا أن تزيد النمو الاقتصادي, فلا نمو بدون مشاريع اقتصادية حقيقية منتجة تحد من الفقر والبطالة وتؤسس لنظام اقتصادي يراعي الأبعاد الاجتماعية ويكون قوامه العدالة والتوزيع العادل للدخل.
الأراضي الفلسطينية بحاجة إلى اشتقاق تلك التجارب والأخذ بما يتوافق والواقع الاقتصادي والاجتماعي القائم, وتجربة التمويل الأصغر وصناديق صغار المدخرين من الممكن أن تؤتى ثمارها إلا ما تم استغلالها جيدا ودراستها بكل عُمق واستفاضة , فتطبيق تلك التجارب ملائم للحالة الفلسطينية وخصوصا تجربة الصناديق وانتشارها فلسطينيا يحد من مشكلة التسرب الموجودة ويزيد من عدد المودعين وخصوصا الفقراء وذوي الدخول المنخفضة والمتوسطة , وهذا بدوره يعزز مبدأ المشاركة الجماعية و حشد الموارد المالية وتجميعها وتوظيفها في قنوات استثمارية .