لست رجل دين ولا كاهن...لكنني أؤمن بالله والحياة

بقلم: فراس ياغي

في العام 1099 ميلادي الموافق 492 هجري الموافق وفق التقويم العبري 4859، بدأت منطقتنا مرحلة جديدة في تاريخها، فالشعب بدياناته الثلاث وغير المتدينين منهم، والذي كان يعيش بتوافق في مدينة القدس (إيلياء، أورشليم، يبوس) ينهار إنسجامه وتوافقه، فالفِرنجه القادمين من خلف البحار، من "أوروبا" أبوْ إلا أن يعيثوا فسادا وقتلا في المنطقة، الحروب المقدسة بدأت وجاء الغزو الفرنجي الذي سمي "غزو صليبي" لمدينة القدس بالأساس والمنطقة ككل بشكل عام، ومن تلك اللحظه فقدت المنطقة تعايشها، وفقدت إنسجامها، فرغم أن هناك خلاف في التقويم التاريخي إلا أن الجميع كان يجد طريقته ووفق دينه الخاص لعبادة الله تعالى وكان الجميع يحيا بسلام وتوافق في مختلف النواحي...مدينة الله ومدينة السلام، وبإسم قداسة "البابا" والمشيئة الإلهية، إستبيحت وتم ذبح مواطنيها المسلمين والمسيحيين واليهود واللا متدينين، لحظتها قال أحد اليونانيين القاطنين في المدينة والذي لا يؤمن بالديانات السماوية الثلاث، بل يؤمن بما يسميه "مويرا- الإله المجهول- الطاقة الإلهية المسؤولة عن قانون أوحد، هذا الذي يدعى "القبطي" قال: " إبتداءً من الغد سيتحول الإنسجام إلى تنافر، وسيحل الأسى محل الفرج، وسيتنحى السلام أمام الحرب التي ستستمر إلى مستقبل بعيد، أبعد من تصورنا" (كويلو-مخطوطة وجدت في عكرا).

صدق "القبطي"، فالمنطقة التي عاشت عصور من الهدوء المرتبط بحرية الأديان وبالعبادة لله، تحت شعار "العبادة لله والوطن للجميع"، تحولت إلى صراع يأخذ منحنيات مختلفه أساسها تعصب ديني في العديد من الأوجهه والتي تخدم مفهوم غربي "فرنجي" في السيطرة التامة على المنطقة...تعصب أعمى يبدأ من مفهوم "الوعد الإلهي" لينتهي بمفهوم "الفرقة الناجية"...صراع دموي بين من يعبدون إله واحد من جهة، وبين الدين الواحد من جهة أخرى...التاريخ القديم بمآسيه يتم نقله للحاضر وبمسميات متعددة...فهذا الدين يرى أن "الرب" إختاره كشعب ووعده بهذه الأرض، وأن وجوده عليها مسألة غير قابلة للنقاش، فالمسألة "إلهية"، و "ربّ" هذا الشعب ينفذ وعده، ويعيده لأرض الأجداد بعد شتات مئات السنين، وسياسيي هذا الشعب، العارفين لمعنى التعايش والسلام على مستقبل المنطقة ومستقبل شعبهم بالذات، يختبئون خلف هذا الشعار ويطالبون الآخريين بالإعتراف به، بل يجدون الدعم التام من قبل أكبر الدول العلمانية و "النيو ليبرالية"، من الولايات المتحدة الأمريكية ومن أوروبا التي جلبت للمنطقة تلك الصراعات الدموية قبل أكثر من ألف سنه، وبعد أن أعطت وعداً "بلفورياً" بإعطاء أرضٍ لا تملكها لشعب يدعي أنه موعود فيها إلهياً.

يقول كويلو " في دورة الطبيعه، النصر والهزيمه لا وجود لها، هناك الحركة فقط"، وحركة التاريخ سجلت تموجات مختلفه ولم تثبت يوما على شيء، فتحكمت فيها موازين القوى دائما، وهذه المنطقة لم تعرف مفهوم الإستقلال القُطري إلا بعد أن قامت إتفاقية "سايكس-بيكو" كمقدمة لخلق كيانات مرتبطه بمفاهيم السيطرة والتمكّن، وإيجاد البيئة الخاصة بتمكين "الوعد الإلهي" لذاك الشعب المحروم والمشتت...منطقتنا في المشرق العربي وشبه الجزيرة العربية كانت بيئة واحده، لا حدود بينها، فيها من الإمتزاج والتوافق والإنسجام أكثر مما فيها من خلاف، فالقبائل العربية المسلمة والمسيحية عاشت جنبا إلى جنب، ولاحقا لم تكن هناك صراعات بين الأديان المختلفه، بل تركز الصراع في داخل الدين الواحد نفسه، فالمسيحية المهيمنة الكهنوتيه أبعدت الفكرة "الغنوّصية"، و "الفريسيين" اليهود ربطوا بين العهد القديم والعهد الجديد من خلال دخولهم للمسيحية، وفرضوا روابط دينية لم يدعو لها السيد "المسيح" عليه السلام، بل أُقحمت على لسانه، ف "المسيح" عليه السلام الذي نادى بالمساواة والسلام والتعايش لا يمكن أن يهاجم إمرأة "كنعانية" جائته تطلب شفاء طفلها (فراس السواح-الوجه الآخر للسيد المسيح)...أما ما حدث في الواقع الإسلامي، فكانت فكرة "الفرقة الناجية" مقدمة للصراعات بين التعددية في داخله، كانت تعددية فكريه تُغنيه، فأصبحت تُدميه، كانت تأخذه لمفهوم الإجتهاد، فأصبحت تعتقله بالدماء وتحكم عليه بالقتل وقطع الرأس، تحولت من "علم الكلام" إلى "علم الإقتتال"، حولوا التعددية لنقمة لا لنِعمة، وبإسم مفهوم "الفرقة الناجية" الذي قد يكون مُقحماً على لسان رسول الله صلوات الله عليه وسلم، أصبح تكفير الآخر وقتله مُشرّعاً، هؤلاء هم الضعفاء كالضباع يعتاشون على جِيف الأسود، وهم الفاشلون الذين كرهوا الحياة ونبذوها بإسم النجاة في الجنة، هم الكاذبون الذين حولوا حلمهم لحقيقه فأصبحوا خطر فِعلي على الحياة بمجملها.

يقال أن هناك ديانه كانت في "أمريكيا اللاتينية" قبل الميلاد وبعده بمئات السنيين تدعوا للتوحيد، ف "الإله واحد"، ولكن حين جَسّدوه بتمثال، تقاتلت القبائل فيما بينها على من يأخذ الإله، وفي الإسلام لنا إله واحد وقرآن واحد ونبيٌّ واحد، لكننا نتقاتل بإسم "الفرقة الناجية"، وفي المسيحية عام 170 ميلادي أُختيرت الأربعة أناجيل ورسائل الرسل التي نعرفها اليوم، وأُبعد كل شيء غيرها، فأُبعدت الأناجيل التي خُطت بيد النساء "كإنجيل مريم المجدلية" لأنها وصفت "يسوع" عليه السلام بأنه مدركا لمهمته الإلهية، وتم محاربة "الغنّوصية"، وفي اليهودية لا تزال فكرة "الوعد الإلهي" للرب "يهوه" تُدغدغ السياسيين وتأخذ المنطقة نحو الصراع والدمار الأكيد.

قال السيد المسيح عليه السلام "أحبب قريبك حبك لنفسك" (إنجيل متى) وقال " وصية جديدة أنا أعطيها لك، أن تحبوا بعضكم بعضا" (إنجيل يوحنا)...وجاء في القرآن الكريم "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " (الحجرات13)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم فمن كان له قلب صالح تحنن الله عليه وإنما أنتم بنو آدم وأحبكم إليه أتقاكم" (تفسير القرطبي).

أخيرا، لست كاهن ولا رجل دين ولا شيخ، لست سوى إنسان يُحب الحياة ويؤمن بالله، لكني أعتقد أن الحياة في الإختلاف، والجمال في التعددية، وأن اللا كمال هو ما يجعلنا بشر مَخلوقين من خالق، وأعلم أن لا أحد يستطيع العودة للماضي، بل الكل قادر على التقدم للأمام، ومن يعيش حاضره ماضياً ليس سوى ذاك الفاشل الذي يكره الحياة مدعياً حبه للجنه وحورياتها، هم الذين يهدمون الجسر لمعرفتهم أن لا أحد ينتظرهم في الطرف الآخر...المستقبل للوحدة لا للتفرقة، وسايكس- بيكو ليس بِقَدر مُقدّر بِقدرْ ما هو دفعه وحركة أخذت وقتها التاريخي وحان وقت نفيها ومحوها لتعود البلاد للعباد كما كانوا، فأعداؤنا ليسوا سوى من يقفوا بجانبنا ويستلوا الخنجر خلسة ليطعنوننا من الخلف، في حين من يخاصمنا علنا فإنه يختبر شجاعتنا وقدرتنا على المواجهة...وفي الختام أقول كما قال "القبطي" في رواية باولو كويلو (مخطوطة وجدت في عكرا) " لا أزال أجهل ما أقوله لكم، لكني سأسأل الطاقة الإلهية أن تُطهر قلبي".