أعترف أنني أنتمي إلى معسكر المتشائمين، إذ ليس هناك أدنى احتمال للتوصل إلى اتفاق فلسطيني-إسرائيلي للسلام، في ظل التوازنات العربية الإسرائيلية المختلفة، والصلف الإسرائيلي، فموضوع السلام الذي يقوم على إنهاء الاحتلال، ومنح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة، غير قائم في عقلية وإستراتيجية وأيديولوجية اليمين الإسرائيلي المهيمن على قرارات الحكومة الإسرائيلية، وكل ما يدور حالياً من معركة تفاوضية فقط للاستهلاك الإسرائيلي الداخلي من جهة، والخارجي- وخاصة مع الولايات المتحدة- من الجهة الأخرى، وأكثر ما تخشاه إسرائيل اتهامها بإفشال المفاوضات، ومن أجل ذلك تضع العراقيل والذرائع والألاعيب، مما يتطلب من الجانب الفلسطيني فهم ما يدور في الذهنية الإسرائيلية، كي يأتي الرفض للسلام من الجانب الإسرائيلي.
في مؤتمر "دافوس" الاقتصادي، وفي معرض رده حول إخلاء مستوطنات في إطار المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية للسلام، أعلن "نتنياهو" أنه لن يقوم بإخلاء أية مستوطنة أو مستوط، بعد إقامة الدولة الفلسطينية، "يديعوت 30-1-2014"، بل إبقاء مستوطنين تحت حكم وسيادة الدولة الفلسطينية، مما أثار الكثير من اللغط والاستنكار من قبل اليمين الإسرائيلي، والمستوطنين على حد سواء، مع أن ما طرحه "نتنياهو" يندرج ضمن ألاعيبه، وبالون اختبار جديد، للمماطلة وشراء الوقت، إضافة إلى العقبات الكثيرة التي يضعها لعرقلة المفاوضات، من مطالبته باعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة، والقدس الموحدة عاصمة إسرائيل الأزلية، وعدم الانسحاب إلى حدود عام 1967، وعدم عودة اللاجئين الفلسطينيين، وضم الأغوار ومستوطنات الأغوار، وضم مدينة أم الفحم والمدن والقرى الأخرى في وادي عارة 1948، مع سكانها البالغ عددهم (300) ألف فلسطيني إلى الضفة الغربية، للتخلص من الكثافة العربية داخل الخط الأخضر، وعقد مؤتمر صحفي يتهم السلطة الفلسطينية بالتحريض، ومن أجل تضخيم هذا الاتهام، أدرج موضوع التحريض على طاولة جلسة الحكومة الإسرائيلية، حتى أن وزير الاستخبارات والشؤون الإستراتيجية "يوفال شتاينتس"، وفقاً لجريدة "معاريف 30-1-2014"، هاجم الرئيس الفلسطيني "محمود عباس"-المعروف باعتداله- ويصفه بزعيم اللاسامية الأول في العالم، وبمعاداته للسامية وإسرائيل، زاعماً أنه يُعلم الأطفال في المدارس الفلسطينية كره إسرائيل، فاللاسامية تهمة جاهزة لكل من يعارض السياسة الإسرائيلية، ولا يخضع لإملاءاتها، مع أن الشعب العربي هو الشعب السامي الحقيقي، أما من يهاجم الاحتلال والاستيطان والممارسات العنصرية الإسرائيلية ويتعرض لها، يُتهم بالتحريض، بينما أن مجرد المطالبة بيهودية الدولة هو قمة العنصرية، وأن شعار دولة يهودية وديمقراطية، هو قول دون مضمون، في الوقت الذي لم يتفقوا فيما بينهم بالتعريف من هو اليهودي؟ حتى أن الوزير "سلفان شالوم" اعترف بأن ما قاله "نتنياهو" بشأن بقاء المستوطنين، جاء لأغراض دعائية تكتيكية لا غير، وأن إسرائيل تريد إطالة المفاوضات لسنة أخرى، وأن "نتنياهو" نفسه لا يؤمن بهذه الفكرة.
إن الطلب الجديد، بإبقاء مستوطنين في الدولة الفلسطينية، وتحت سيادتها، لن يكون آخر الطلبات الإسرائيلية، لوضع عقبات تعجيزية، ولحمل الجانب الفلسطيني على ترك المفاوضات، وتحميله مسؤولية فشلها، فقد أثار هذا الموضوع ردود فعل ومعارضة في اليمين الإسرائيلي المتشدد، كذلك بعض الوزراء ونواب الكنيست من حزب "الليكود" الحاكم، فهذا اليمين يقول أنه لا يتمنى، حتى لألد أعدائه العيش تحت الحكم الفلسطيني، معتبراً الفكرة خيالية، فقد وصل التوتر إلى ذروته بالدعوى لحل الائتلاف الحكومي على هذه الخلفية، بعد المواجهة الكلامية للوزير "نفتالي بينت" رئيس حزب البيت اليهودي، الذي له 12 نائباً، و3 وزراء في حكومة "نتنياهو"، في شنه حملة جارحة على "نتنياهو" شخصياً وعلى سياسته، حتى أن "بينت" يعارض بشدة إقامة دولة فلسطينية، ويقول: أنها ستملأ إسرائيل باللاجئين، وأن التعايش المشترك آخذ بالتلاشي، وأن الزمن الديمقراطي يعمل لصالح إسرائيل، ويضيف: "بأن أجدادنا ونسل نسلنا لن يغفروا للزعيم الإسرائيلي الذي سيسلم "بلادنا"، ويقسم "عاصمتنا"، فطلب إزالة الفكرة لعيش المستوطنين تحت السيادة الفلسطينية، وأن هذا لن يحدث، ولا يمكن أن يحدث وتساءل: هل تعرفون لماذا لا يستطيع اليهود العيش تحت السيادة الفلسطينية؟ ولماذا لا يمكننا أن نسمح للفلسطينيين بالسيطرة على اليهود؟ لأنهم سيقتلوننا، وأن جوهر الصهيونية السيادة، وإذا لم تكن هناك سيادة فلا وجود للصهيونية، فـ "بينت" يسعى لتتويجه بلقب زعيم لليمين الإسرائيلي المتطرف، فهذا الهجوم من قبل "بينت" يتعارض مع المسؤولية المشتركة للوزراء، فهناك من طالبه بالاستقالة، طالما أنه يعارض سياسة الحكومةالتي يجلس فيها -حسب الناطقين بلسان ديوان رئيس الحكومة.
لكن سرعان ما تبين أن اقتراح "نتنياهو" بإبقاء مستوطنين تحت السيادة الفلسطينية لا يعدو خدعة جديدة، وبالون اختبار، فديوان رئيس الوزرا، أصدر بياناً جاء فيه بأن تصريحات "نتنياهو"، بشأن بقاء المستوطنين تحت السيادة الفلسطينية، لم تكن إلا دق إسفين وفخ لإيقاع الفلسطينيين فيه، ولإظهارهم أمام العالم كرافضين للسلام، يسعون لتطهير عرقي ضد اليهود في الأراضي الفلسطينية، وأن الهجوم المتسرع للوزير "بينت"- كما جاء في البيان- أضر بالهدف الحقيقي لتصريحات "نتنياهو"، وأن "بينت" تصرف بعدم مسؤولية قومية، بينما هدف "نتنياهو" تعرية السلطة الفلسطينية، "يديعوت 28-1-2014"، فقد استدعى "نتنياهو" الوزير "بينت" لتوبيخه على مهاجمته له، واتهامه بأن تصريحاته ألحقت الضرر الكبير للسياسة التي يتبعها "نتنياهو"، في مفاوضاته مع الفلسطينيين، وبينما كان كتاب إقالته من الحكومة جاهزاً،فتراجع "بينت"، واعتذر لـ "نتنياهو"، مفضلاً كرسي الوزارة على المبادئ التي كان يتغنى بها، فانتهت هذه الأزمة الحكومية مؤقتاً، بانتظار الأزمة القادمة.
إن ما طرحه "نتنياهو" بشأن بقاء مستوطنين تحت الحكم الفلسطيني، قد يكون أيضاً رداً على مواقف الرئيس الفلسطيني "محمود عباس"، بعدم بقاء أي مستوطن بعد إقامة الدولة الفلسطينية، باعتبار أن المستوطنات غير شرعية وغير قانونية، وحسب موقع "واللا الإسرائيلي 29-1-2014"، فقد نسب لـ "أبو مازن" تصريحات خلال الندوة التي عقدها مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي بتاريخ 28-1-2014 يصر فيها على حدود عام 1967، وأن تكون القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية، وتبقى القدس مفتوحة أمام جميع الأديان مع ترتيبات بين الجانبين، وأن تصبح حدود الدولة في النهاية بأيدي الفلسطينيين، ويقبل بتواجد عسكري إسرائيلي لمدة ثلاث سنوات، أما قضية اللاجئين فهي تحتاج إلى تعامل وفقاً لمبادرة السلام العربية التي تدعو لحل متفق وعادل لهذه القضية، وبناء على قرار (194)، فإن ما يتسرب عن خطة الوزير "جون كيري"، كما نشرها الصحفي الأميركي-اليهودي المعروف "توماس فريدمان"، في جريدة "نيويورك تايمز"، لولا أنها تشير إلى الاعتراف بإسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي، ودون الإشارة لحق العودة، فإن إيجابياتها أنها تقوم على أساس إقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وتبادل أراضي مقابل الكتل الاستيطانية الثلاثة، مع ترتيبات أمنية مشددة في منطقة الأغوار، ومع كل ألاعيب "نتنياهو"، ووضع العراقيل أمام المفاوضات فعلى القيادة الفلسطينية، أن تقبل ما يتناسب مع طموحات الشعب الفلسطيني، خاصة ما يتعلق بالقدس والحدود، والتحفظ على ما لا يتناسب والثوابت الفلسطينية.
فهل يستطيع "نتنياهو" أن يقول للأميركان لا، ويتملص من مشروع كيري، في الوقت الذي يحذر فيه وزير المالية "يئير لبيد" وفقاً لجريدة "يديعوت 30-1-2014"، بأن فشل المفاوضات سيؤدي إلى فصل (10) آلاف إسرائيلي من عملهم، وخسارة (20) مليار شيكل، تؤدي إلى تضرر جميع سكان إسرائيل، وأنه لأول مرة ناقشت الحكومة الإسرائيلية تعاظم المقاطعة لإسرائيل، فإن إسرائيل والإدارة الأميركية في امتحان، وإسرائيل في مأزق.