أول إقطاع في الإسلام وقف الرسول لآل تميم الداري في فلسطين

بقلم: تيسير التميمي

هذا هو الإسلام
أول إقطاع في الإسلام وقف الرسول لآل تميم الداري في فلسطين

الحلقة الرابعة : موقف الدول والحكومات المتعاقبة من الإنطاء النبوي/1
عمل الخلفاء المسلمون والحكومات الإسلامية المتعاقبة عبر التاريخ على إمضاء وقف تميم الداري وتنفيذه وعدم التعرض له ولأصحابه ، وكانوا يوصون قادتهم وأمراءهم بالحرص على الإنطاء . ومنهم من كان يهاب ويخشى تبديل أي شيء من صور الإنطاء ، ومن أبرز تلك المواقف التاريخية :
1- موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه : لما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم تولى الخلافة بعده أبو بكر رضي الله عنه ، فلما جنَّد الجنود إلى الشام كتب كتاباً هذه نسخته [ بسم الله الرحمن الرحيم ، من أبي بكر الصديق إلى أبي عبيدة بن الجراح ، سلام عليك ، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ؛ فامنع من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من الفساد في قرى الداريين ، وإن كان أهلها قد جلوا عنها وأراد الداريون أن يزرعوها فليزرعوها بلا خراج ] .
وفي رواية أخرى عن أبي بكر أنه كتب للداريين لما ولي الخلافة كتاباً إلى عمرو بن العاص نسخته [ بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من أبي بكر الصديق أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي استخلف في الأرض بعده ، كتبه للداريين ألاَّ يفسد عليهم مأثرتهم قرية حبرى وبيت عينون ، فمن كان يسمع ويطيع فلا يفسد منهما شيئاً وليقم عمرو بن العاص عليهما فليمنعهما من المفسدين ] .
من ذلك يظهر لنا أن أبا بكر رضي الله عنه عمل بصيغة الإنطاء النبوي كما هو ، وأمر القادة الفاتحين بإنجازه وتسليمه لأهله بلا خراج .
2- موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه : جاء في رواية ابن سيرين عن تميم الداري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سلَّم قرى الداريين إليهم ، ولكنه جعل ثلثاً من ريعها لابن السبيل وثلثاً لعمارتها وثلثاً لهم .
وبين ابن حجر العسقلاني (شارح صحيح البخاري) ضعف هذه الرواية فقال [ لا يؤخذ بها لضعفها بناءً على ثبوت عدم سماع ابن سيرين من تميم ، ويعتبر عمل عمر هذا تغييراً لأصل الإنطاء النبوي وظلماً للداريين في مأثرتهم الخالصة لهم ؛ والتي بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنها لهم ولعقبهم وحدهم أبد الأبد ، ولعن من دخل عليهم بظلم في شيء منها ، ولا يعقل أن عمر بن الخطاب يفعل شيئاً من هذا وهو الذي يبتعد عن مواطن الشبهات .
وكذلك فإن هذا اجتهاد من عمر في مورد نص فلا يؤخذ . أما موقف عمر الذي يعتد به فهو منعه لتميم من البيع أما منع عمر لتميم من البيع فذلك من مقتضى الإنطاء ، فلولا منع البيع لم يبق بحوزتهم هذا الإنطاء أبد الأبد . وقد ثبت هذا المنع عن عمر رضي الله عنه بعدة روايات وعليه التعامل إلى يومنا هذا . فلا تباع أرض هذا الإنطاء ولكن يؤجّر ويوزع ريعه على الداريين ] .
3- موقف عبد الملك بن مروان : أراد الخليفة عبد الملك أن يتعرض للداريين ؛ فأتَوْا بكتابهم فتركها لهم .
4- موقف سليمان بن عبد الملك : أراد سليمان بن عبد الملك أن يتعرض للداريين بشأن قراهم فأتَوْا بكتابهم ، وكان إذا مرَّ بقريتَيْ تميم لم يعرج ويقول [ أخاف أن تصيبني دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ] ولم يتعرض للداريين بأذىً أبداً .
5- موقف المأمون : ذكر السيوطي في رسالته (الفضل العميم في إقطاع تميم) أن سعيد بن زياد بن أبي هند الداري دخل على المأمون فقال [ أرني الكتاب الذي كتبه الرسول صلى الله عليه وسلم لكم ] قال فأريته ، فقال [ إني لأشتهي أن أدري أي شيء هذا الغشاء على الخاتم ] فقال له : حل العقد حتى تدري ما هو ، فقال [ ما أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد هذا العقد وما كنت لأحل عقداً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم ] ثم قال للواثق [ خذ فضعه على عينيك لعل الله يشفيك ] وجعل يضعه على عينيه ويبكي .
فالمأمون خاف أن يحل العقد الذي عقده الرسول صلى الله عليه وسلم على رقعة الإنطاء ، إجلالاً وإكباراً له ولفعله ، وإظهاراً لشرف ناله الداريون ، وبركة تحن النفوس للاستشفاء بها .
6- موقف الصليبين : قال صاحب الضوء الساري في معرفة خبر تميم الداري [ والذي استفيض من الأخبار أن القريتين ما زالتا منذ فتحت البلاد في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيد الداريين إلى أن استولى الفرنج على القدس والخليل وفلسطين ، فخلت من جميع المسلمين لأنهم قتلوا من أمسكوا به من المسلمين ، وفرَّ من بقي منهم إلى أمصار الإسلام ، فلما عادت البلاد إلى الإسلام بعد نحو مائة سنة عاد الداريون ووضعوا أيديهم على القريتين ] .
وبالرجوع إلى مصادر التاريخ العربية والأجنبية تبين أن أهل الخليل وفلسطين لم يغادروها ، وإنما بقوا متحصنين في جبالها ولم يغادروا إلاَّ نفس المدينة المسورة أو القلعة ، فالمدن في الماضي كانت قلاعاً يسكنها الناس ويسدون أبوابها في المساء حتى الصباح ، وهكذا كانت مدينة الخليل . ولذلك لم يتمكن الصليبيون إلاَّ من احتلال القلعة فقط وهي تشكل جزءاً بسيطاً من أراضي البلد . وبعد عدة سنوات من احتلالها كرَّ عليهم أهل المنطقة المسلمون بما فيهم أهل الخليل وبالأخص التميميين ، وكادوا يحتلون القلعة لولا مجيء نجدة من ملك القدس الصليبي ، وهكذا بقوا في حالة حرب مستمرة مع الصليبين إلى أن طردوهم منها بقيادة صلاح الدين الأيوبي .
جاء في كتاب الحروب الصليبية لستيفن ونسيمان [ غير أن قلعة القديس أبراهام " إبراهيم " لم تكن أكثر من جزيرة صغيرة في وسط إسلامي ، فلم يكن للفرنج سيطرة على الدروب الممتدة من بلاد العرب إلى الطرف الجنوبي للبحر الميت ، والتي سارت إزاء طريق التوابل الذي استخدمه البيزنطيون ، واستطاع البدو أن ينفذوا من هذه الدروب إلى النقب ، وأن يتصلوا بالحاميات المصرية المرابطة في غزة وعسقلان على الساحل ، ولم يكد الصيف ينتهي حتى امتدت سلطة جودفرى إلى سهل جزرل في شمال فلسطين ، وإلى ما وراء جبل حبرون إلى النقب في الجنوب ، على الرغم من أنه لم تكن له السيطرة التامة في جنوب يهوذا لأن معظم السكان كانوا من المسلمين ] .
وجاء في كتاب بلادنا فلسطين [ استولى الفرنج على الخليل من عام 1099م ـ 1187م ، حمل عليها المسلمون عام 1107م قادمين من عسقلان ، وكادوا يستولون عليها لولا نجدة الملك بلدوين الأول للفرنجة ]
وقد زار بعض الرحالة المسلمين الخليل أثناء احتلال الصليبيين ، واجتمعوا مع مشايخها ومنهم الهروي الذي زارها عام 1175م فقال [ دخلت القدس سنة تسع وستين وخمسمائة ، واجتمعت فيه وفي مدينة الخليل عليه السلام بمشايخ حدثوني أن الفرنجة نزلوا إلى المغارة المدفون فيها إبراهيم عليه السلام ] .
يدل هذا القول على أن قسماً من سكان البلد بقوا حتى في داخل القلعة ، وهم الذين حدثوا الرحالة عما فعله الصليبيون ، وفي هذا إثبات لا يقبل الشك أن كثيراً من التميميين لم يغادروها أثناء الاحتلال الصليبي ، وبقوا يشنون الغارات على الصليبيين حتى تم تحريرها ، فلا حاجة إلى إثبات أنهم أبناء تميم ، ولا كيف سكنوا الأرض وتملكوها بعد الاحتلال ، لأنها بقيت تحت تصرفهم إلاَّ القلعة التي دحروا منها الصليبين ، ويتأكد ذلك بأن الدولة الإسلامية أبقت أبناء تميم على ما هم عليه . ولو كان عندهم شك لما أبقوا أرضاً كهذه في قدسيتها وبركتها وحجمها في يد ذرية معينة .
7- موقف التتار : وأما بالنسبة للاحتلال التتري للخليل ، فقد كان احتلالاً قصير المدى ، فلم يمكثوا فيها أكثر من سنتين ، واستولوا فيها على القلاع فقط ، فخرج الناس إلى الجبال يقاومونهم إلى أن انهزموا في معركة عين جالوت بقيادة المظفر قطز ، وعادت الخليل إلى أبناء تميم الذين لم يغادروها.
8- موقف العثمانيين : أقر الخلفاء العثمانيون الداريين على ما بأيديهم من حبرون والمرطوم وبيت عينون ، وكتبوا لهم بذلك بناء على ما وجد من وثائق ثابتة ، وصورة مكتوبة لهم محفوظة في المجلس الإسلامي الأعلى بالقدس الشريف .
وبترجمة هذه الصورة ـ المؤرخة في 22/9/1929م ، والتي تحمل الطوابع التركية وخاتم مدير الطابو ، وخاتم دائرة معاون المديرية العمومية للطابو والفادستروا ، وخاتم القنصل البريطاني في استانبول ، وخاتم دائرة التمييز الحقوقية المختلطة في ولاية استنبول ـ وجد أنها تتضمن حاصلات وخراج وريع ما وقفه صلى الله عليه وسلم على تميم الداري رضي الله عنه والمتكون من :
قرية بيت عينون بتمامها التابعة لمدينة خليل الرحمن التابعة لناحية القدس ، وأرض مدينة خليل الرحمن المعروفة بحبرون أو حبرا ، وبيت إبراهيم بتمامها ، ودكاكين في سوق الخليل تعرف بوقف التميمي في أرض بيت إبراهيم وعددها خمسة وستون ، وقرية المرطوم المعروفة بالرياضة التابعة لخليل الرحمن تماماً .

الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي/قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
www.tayseer-altamimi.com ، [email protected]