إنه درسٌ وعبرةٌ لكل الحكام والقادة، العسكريين والمدنيين، المنتخبين الشرعيين عبر انتخاباتٍ ديمقراطية، أو القادمين إلى سدة الحكم بإنقلاباتٍ عسكرية، أو الوارثين للحكم عبر الملكية، أو المتقلدين للسلطة في نظم المشيخة.
إنه درسٌ لكل الذين يظنون بأنفسهم القوة، ويعتقدون أنهم القادرين المخْلِصين، وأنهم المُخَلِّصين المنقذين، والمحبوبين المقبولين، محل الإجماع وأهل الثقة، الذين اختارهم الله بعينه، وكلأهم بحفظه، وانتقاهم بنفسه، من أصحاب السيادة والفخامة، والسمو والجلالة، ليكونوا للأمة روداً، وللشعوب قادةً، وللبلاد حكاماً ورؤساءً، يأخذون بنواصي الشعوب، ومقدرات الأمم، نحو غاياتٍ وأهدافٍ يرونها هم، ويعتقدونها بأنفسهم، ويختارونها دون غيرهم، وويلٌ لمن خالفهم، وسحقاً لمن اعترض طريقهم، أو جاهر بأخطائهم، وعلا صوته بانتقادهم، مبيناً عيوبهم، أو مسلطاً الضوء على تقصيرهم.
إنه برويز مشرف، جنرال الباكستان العسكري الأول، وقائد الجيش النووي الباكستاني، المنقلب على الشرعية، والقادم إلى سدة الرئاسة من الثكنات العسكرية، محتفظاً ببزته، ومتمسكاً بصلاحياته، ومستأثراً بالسلطات وحده، يقيل من شاء، ويثبت في منصبه من يريد، يتدخل في القضاء، ويصدر أوامره إلى رجال الصحافة والإعلام، ويطلق اليد الأمنية لتطبق على أعناق المواطنين، فتقتل وتعتقل، وتضيق وتحاسب، وتحرم وتجرد، وتقسو وتغلظ، ولا يقوى أحدٌ على الإعتراض، أو المجاهرة بالرفض، فحكم العسكر هو الغالب، ومنطق العسكر لا يغالب ولا يجادل، وويلٌ لمن عصى الأمر وتمرد، أو خالف وتنمرد.
إنه اليوم أمام القضاء، بتهمة القتل والخيانة العظمى، بعقوبةٍ قد تصل إلى الإعدام، فهل نفعته الولايات المتحدة الأمريكية، التي فتح بلاده لها، وجعلها تعيث فساداً في أرضه، تقتل من تشاء، وتغير وقتما تريد، وتنتقي من الأهداف ما ترى، ولا تفرق في غاراتها بين بيوتٍ مأهولة وأخرى مهجورة، وتقتل من المدنيين أكثر من العسكريين، وتخترق الحدود، وتنتهك السيادة، وتهين الوطن، وتؤذي المواطنين، وتستخدم أرضه قواعد عسكرية، ومنطلقاً لطائراتها المقاتلة، بعد أن أباح لهم استخدام أجواء بلاده لطائراتهم بدون طيار، تصور ما تشاء، وتراقب حيث تريد، وتجمع المعلومات التي تبحث عنها، وتصطاد شيوخ القبائل وسكان البلاد، دون خوفٍ من مساءلة، أو قلقٍ على مصير، أو تحسبٍ من فشلٍ، أو إنكشاف الأمر، وافتضاح الحال.
هل استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية أن تحميه في بلاده، وأن تنقذه من مصيره، وأن تضمن عودته الآمنة إلى وطنه، بأن شعبه لن يثور عليه، ولن ينتقم منه، وهو الذي مكنها من الانتصار، وسهل عليها محاربة ما يسمى بـــ"الإرهاب"، فأمن دخولها إلى أفغانستان، ومهد لها الطريق إليها، عبر قواعد عسكرية كثيرة، بعد أن فتح للقوات الأمريكية مطارات بلاده، وأجواء وطنه، تنطلق منها لحرب الأفغان، وقتال أهلها، دون تمييزٍ بين مواطنين أبرياء مساكين لا حول لهم ولا قوة، أو آخرين مقاتلين، تصنفهم الإدارة الأمريكية بأنهم مقاتلين أجانب، أو مقاتلين أعداء.
هل نفعه التعاون الأمني، والتنسيق العالي المستوى مع المخابرات المركزية الأمريكية، التي سمح لها بفتح مكتبٍ خاصٍ بها، وتعيين مديرٍ عامٍ سريٍ في بلاده، يعيث فيها فساداً، يوظف من يشاء، ويتنصت على من يريد، ويتدخل في خصوصيات الدولة، ويتعرف على أسرارها، ويستخدم موظفيها، ويزرع منهم وفيهم عملاءه وعيونه، وهل سيحميه تعاونه مع أجهزة المخابرات العالمية في تسليم أسرار الترسانة النووية الباكستانية، والتعهد بضبطها، وعدم استخدامها، أو التهديد والتلويح بها.
أم يظن أن الشعب الباكستاني سيغفر له إنقلابه العسكري، وتطاوله على الشرعية، وطرده لرئيس الوزراء المنتخب، وتسلطه على أجهزة الدولة، وإقصائه لكل المتحالفين مع حكومة نواز شريف، الذي انقلب عليه، وأجبره على القبول بصفقةٍ يخرج فيها من البلاد، بعد أن عجز عن اعتقاله.
أم يظن أنهم سيسكتون على تطاوله على دستور البلاد، وتعديه عليه تغييراً وتبديلاً وتعطيلاً بما يخدم مصالحه، ويحقق أهدافه، وإعلانه حالة الطوارئ في البلاد، واحتفاظه لنفسه بصلاحياتٍ واسعةٍ في إدارة البلاد والجيش والقوات المسلحة، ورفضه مخالفاً للدستور ووعوده الشخصية، بالتخلي عن منصبه كقائدٍ عام أعلى للجيش والقوات المسلحة.
لن ينسى الباكستانيون اشتباههم في ارتكابه لجريمة اغتيال رئيس وزراء باكستان السابقة بي نظير بوتو، ولا ضلوعه في عشرات جرائم القتل والاغتيال الكبرى، التي راح ضحيتها عشرات الشخصيات السياسية والإعلامية والقضائية والعسكرية، وكانت أغلبها تتم في ظروفٍ غامضة، ولا يقوى التحقيق أو القضاء على كشف تفاصيلها، ومعرفة أسرارها، مما يجعلها تدون في النهاية باسم مجهول.
أم أنه يعتقد أن هجومه العنيف على مؤسسة القضاء، وتشتيته للقضاة، وتهديده لهم، وطرده من الخدمة كل من يعارضه، أو لا يستجيب لإرادته، سيحميه الآن من المثول أمام القضاء، ودخول قفص العدالة، تحت قوس القضاء الباكستاني، الذي لا ينسى تفاصيل الجرائم، ولا محاولات الإساءة إلى مؤسسته العريقة، من خلال الاعتداء على رئيسها، وإقصائه بالقوة عنها.
أم أنه يظن أن الشعب الباكستاني سينسى مجزرة المسجد الأحمر، ومئات المواطنين الذين قتلهم داخل باحاته، ولم يقبل بالتفاوض معهم، أو خروجهم من المسجد بأمان، ولكنه أبى حينها حل الأزمة سلمياً، وقد كان يعتقد أنه القائد الأوحد، والحاكم الذي لا يسأل ولا يحاسب ولا يعاقب، ما تسبب في قتل المئات من الطلاب والأساتذة ورجال الدين، وتدمير أجزاء كبيرة من المسجد الشهير، ولن ينسى له البلوش جرائمه في حق أبنائهم في باكستان وأفغانستان، وهو الذي قتل أو تآمر على قتل كبار قادتهم وشيوخهم.
لن ينفعه اليوم أمام القضاء أحدٌ، ولن يخدمه السيجار الكوبي الفاخر، ولا كؤوس الويسكي التي اعتاد على شربها مع ضيوفه الأمريكيين وغيرهم، ولا تعمده الدائم لأن يظهر للعالم انفتاحه، وقبوله بمظاهر الحضارة الغربية، مرافقاً لراقصةٍ، أو مشاركاً مغنيةٍ على خشبة المسرح.
إنه درسٌ لكل الحكام في العصر الحديث، أن الشرعية هي في صناديق الإنتخابات ولو تأخرت، وأن القوة مع الشعب وإن خبا صوته، وكسر عنقه، أو جلد ظهره، فهو لا محالة سيتعافى من أزمته، وسينهض من كبوته، وسيستعيد عافيته، وسينقلب على المنقلبين على إرادته، والمخالفين لشرعيته، وإن طال بهم المقام، أو تأخر عنهم العقاب، وظنوا أنهم السادة والملاك، وأنهم أصحاب الأمر والقرار، يعينون ويعزلون، ويثبتون ويقيلون، ويأمرون وينهون، ويعتقلون ويفرجون، ويدينون ويبرؤون، بل ويقتلون ويحيون، وينادون في الناس ويلكم، أنا ربكم الأعلى فاعبدون.
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected] بيروت في 8/2/2014