اتهموني بالجنون بعد أن ذهبت لأحد الأصدقاء ليكتب لي سيناريو لمسرحية تحاكي الواقع بطريقة متطورة وأجمل لتعبر عن عمق المعاناة، ألتفت إليَ ولمس حجم ما أود التعبير عنه، وأكد على أنني أفضل شخص يمكن أن يكتب ويعبر عن مكنونات داخلي، أمسكت بالقلم وبدأت في كتابة مشاهد المسرحية، ولكن كلما حاولت كتابة مشهد، تسقط الفكرة... قررت أو حتى بشكل تلقائي وعفوي، تحول كل قطاع غزة بالنسبة لي إلى خشبة مسرح، بدأت بمحاكاة الآخرين أينما كنت، في الشارع، المدرسة، المقبرة، المسجد، أضحك أبكي أفرح أحزن، أشعر بأنني في حدث مسرحي متحرك، ولكن الآخرين لم يستوعبوا ذلك واتهموني بالجنون...
ما أجمل أن تشاهد فيلماً يحمل قيماً إنسانية لمخرج يعكس كذلك إنسانيته لما نشاهده، حين تناول بطلاً لفيلمه القصير الوثائقي " سيمفونية مشاغب"، في 20 دقيقة، بطلاً يتمرد على واقعه وربما دون أن يشعر يهرب من واقعه إلى مسرح الحياة، وربما أختلط لديه واقعه بفنه ليشكل مخزون ودوافع ليعيش حاله خاصة بعيدة عن الزيف والتجميل، أثر قهر سياسي واجتماعي واقتصادي، نعيش تفاصيل الحكاية، نضحك معه، نبكي، نفرح، ونحزن، بطلاً يعمل مدرساً لمادة الرسم وله لوحات فنية جميلة وممثل مسرحي وهو فنان من نوع خاص، حالة من الصعب أن تتكرر، يدعى نواف، يدهشك حين يتجرد من كل القوانين والعادات، يخرجك عن المألوف، ويدخلك معه إلى اللا مألوف لنعيش معه الحكاية.
النبيه كان نبيهاً ونبيلاً حين ألتقط الفكرة وأصر أن يخرج فيلماً إنسانياً له حكايته الخاصة، نلمس ذلك مع بداية الفيلم الذي يفتتح على شاشة سوداء كتب عليها " عزيزي المشاهد أحياناً تكون الحقيقة أغرب من الخيال وما سترونه قليلاً من الحقيقة، فيا أيها الآدميون لن تكونوا أناساً ولن تبارككم الأرض ما دام الانهزام يسكنكم".
كلمات تعبر عن صرخة للمخرج أراد فيها لهذا الشعب أن ينتصر للحق... تتلاشى اللوحة السوداء وتفتح الكاميرا في لقطة على أسطح المخيم، وبانوراما على خيم اللجوء، شوارع المخيم، السماء والمسجد، نسمع تعليق بصوت سالي عابد " الحكاية مخيم وقبور عمودية، نمت فوق المخيم، شيدت من دم، كان خيمه وكنا صغار وكان الله أقدم شيئاً عرفناه، بيوته ملجئنا وعندما كبرنا حاولوا خلع الله من أجسادنا، فبكينا، شوارعنا لم تعد نفس الشوارع، ومساجدنا استحلتها الأنا، أنانيون، عشنا التيه وبهتت ملامحنا وتحولت جدراننا لصحيفة يومية لم نقرأ عليها خبراً نظيفاً يبشر بالمحبة ".
تعليق يحمل كلمات مؤلمة، نلمس خلالها القهر الذي يعيشه أبناء المخيمات والظلم الذي يقع عليهم حتى من التنظيمات التي تعمل بشكل أناني وفئوي، تتوقف كاميرا المخرج أمام مفردات كان قد كتبها بطل الفيلم نواف على الحائط باللون الأحمر وهي: استعد للإجابة عند دخول القبر: ما هو تنظيمك؟ من أي الكهوف أتيت؟ من الأمين العام الذي بعث فيكم؟ من قتل الأمام؟ وعندما سأل عن صاحب هذه الكلمات قالوا الكثير وقالوا أنه مجنون...
ربما توحي هذه الأسئلة إلى أية مدى أصبحنا عبيداً للتنظيمات، وكيف نقدس الأمين العام ونعتبره بمثابة رسول بعث فينا، أسئلة أراد نواف أن يرسل بمضامينها رسالته التي لم يستوعبها الآخرون.
تنطلق الكاميرا باتجاه بيت نواف في حركة دوللي نشاهد جدران شوارع المخيم تملأها كتابات أخرى مع سماع صوت مرسيل خليفة من أغنية أنا يوسف يا أبي مع عزف على العود "عندما مر النسيم ولاعب شعري غاروا وثاروا علي وثاروا عليك فماذا صنعت لهم يا أبي"، نعيش مع هذه الكلمات التي تمتزج مع أحاسيس نواف وتساؤلاته عن ما فعله ليقع عليه هذا الظلم.
تتوقف الكاميرا عند بيت نواف، يطرق المخرج النبيه الباب وحين لم يجيب أحد، يخرج جاره، يبلغه المخرج أنه جاء ليخرج فيلم عن جاره نواف، ربما بذلك أراد المخرج أن نعيش واقعية الفيلم وتلقائيته وحياديته، ويسأل جاره عن رأيه في نواف، يجيبه أن نواف طبيعي جداً ولكننا لا ندرك فكره ووعيه لذلك هناك من ينعته بالجنون، ولو كان كذلك لما كان مدرساً في وزارة التربية والتعليم، فمثلاً حين يرى نواف شعار لأحد التنظيمات ولم يعجبه يقوم بمحو الشعار أو إجراء عليه بعض التعديلات، ويلتقي المخرج بشخصيات لها علاقة ب نواف، أحدهم يذكر أن نواف يصرخ " لا تبيعوا دم الشهداء، لا تبيعوا الانتفاضة، وهناك مواقف أخرى منهم من يستهجن هذه التصرفات ومنهم من يرى أنها تعبر عن ما لا يمكن لنا أن نعبر عنه.
ينتقل المشهد لكتابات على الجدران كلها شعارات وطنية للقدس وفلسطين والحرية نسمع صوت مرسيل مع عزفه على العود " الفراشات حطت على كتفي ومالت علي السنابل والطير حلق فوق يدي، فماذا فعلت أنا يا أبي".
يبدو أن نواف يرحل من نفسه إلى نفسه يبحث عن صمتنا المطلق، نشاهده في ميدان غزة يقدم مسرحيته بطريقته الخاصة نشاهده في مكان عال يحاكي المتواجدين في الميدان وبكل من يمر من هناك، يتحدث عن الديمقراطية ثم يدخل في كوميديا سوداء يضحك من حوله برفضه للولايات المتحدة الأمريكية، ويربط بين الدولار وبطاقة التموين ( الكابونه) التي توزع على اللاجئين بشكل هزلي، وكأنه يجري مقارنة بين قوة الدولار وحياة المخيم الضعيفة التي تعتمد على بطاقة التموين.
ينتقل بنا المشهد وهو يكتب بفرشاة باللون الأحمر على أحد الجدران والأطفال من حوله، ثم يقوم بوضع الفرشاة على رقبة طفل ويلف الفرشاة عليها في إشارة ربما إلى أن الأطفال الفلسطينيين يذبحون.
شخصية نواف تحتاج إلى التأمل والتفكير بعمق، تحتاج إلى دراسة سلوك، ينتقل بنا المخرج إلى مشهد ليلي داخلي لنواف وهو يجلس والشموع من حوله يروي لنا بهدوء: " أنا المهاجر من عتمة القبور إلى نور الفجر، أنا حر، حر لأنني أعبر عن ما يجول في خاطري، حر لأنني أرسم أتعلم أضحك أبكي، حر لأن الفنان يجب أن يكون حراً، حراُ في التعبير عن الحقيقة، حراً في نقل إنعكاس الصورة على العدسة المقعرة، حر لكي يرسم بفرشاة القلب ونور العقل الطريق الصحيح لنفسه وللعالم".
نشاهد لقطات للوحات فنية جميلة رسمها نواف الذي أكد أن كل قطاع غزة تحول بالنسبة له إلى مسرح كبير متحرك، نشاهده في ساحة الجندي المجهول، يقف أمام تمثال الجندي وفي يده صاروخ من ورق، يصوب الصاروخ الورقي لتمثال الجندي المجهول، ثم يتردد، ربما لإحساسه بأن قيادتنا تتحمل ما يعصف بنا، ثم يلتف بعكس التمثال ويضرب الصاروخ الورقي بالاتجاه الآخر، ينبطح أرضاً، نسمع صوت موسيقى حزينه، ويبدأ بضم يده لتأخذ شكل المسدس ويطلق بها النار، يتقلب وهو يطلق النار بشكل وهمي، الكادر يصبح في حركة بطيئة، يحاول الزحف والتقدم إلى الأمام، يشعر بأنه أصيب برصاصة في رجله، يحاول الوقوف وهو يهرول ممسكاً برجله التي أصيب بها، ثم يحاول فك ربطة العنق ويصفر رافعاً يديه في إشارة منه على أنه أصيب بعيار ناري.
ينتقل المشهد إلى بحر غزة، نواف يقف على الشاطئ يضرب عدد من الحجارة في البحر ثم يروي لنا بأنه مقتنع أن الانتفاضة تولد من رحم الأحزان، وأن الظلم سواء كان سياسياً أو نفسياً أو اجتماعياً، يولد القهر، والقهر يولد التمرد بجميع أشكاله، تمرد سياسي، عسكري، فني، أشعر بأن الحالة الفنية التي أعيشها هي انعكاس للانتفاضة ولذلك أدين الحروف الأبجدية لتعيد ترتيب نفسها وتعلمنا معنا الانتفاضة... نواف يروي لنا حالته وهو يدرك تماماً الحالة التي يعيشها.
نشاهد نواف بين القبور يحمل على ظهره صليب أحمر صممه من الخشب وحوله عدد من الأطفال، يروي لهم بأنه الصليب الأحمر، وعلى ذوي الأسرى الحضور إليه هنا...
الرمزية واضحة في المشهد، بأن تجمع ذوي الأسرى في مقر الصليب الأحمر لا يجدي نفعاً، وبأن الصليب الأحمر كالأموات لا يمكن له أن يساعد الأسرى الفلسطينيين.
ينتقل المشهد إلى أحدى مساجد المدينة، نسمع صوت نواف وهو يدخل إلى المسجد يروي حكايته مع الظلم والاضطهاد الذي وقع عليه في مجتمعه، تربكنا حياته وأسلوبه حين يقول: " حسب أسلوبي وطريقة طرحي لأفكاري الفنية أو الاجتماعية أو الدينية أو السياسية، أنظر لها من زوايا مختلفة وأستخدم أسلوبي الفكري في فني، ولكني وجدت اضطهاد وظلم وقمع نفسي وجسدي، من أشخاص كثر في المجتمع، طردت من المسجد أكثر من ثلاثة مرات، وفي المدرسة أقوم بنشاط معين غير مألوف، مثلاً فخارية أو صندوق وأزرع به شجرة، يقومون بحذفه خارج المدرسة لأنهم يعتبرون أن العمل لا يناسبهم، حتى في بيتي مثلاً رسمت عمل إنشائي حديث، يحضر أحد أفراد أسرتي ولن يعجبه ويعتبر بأن العمل غير منطقي وحين تكرر، اجتمعت الأسرة وتم نقلي لمستشفى الأمراض النفسية... نواف الفنان أبن المخيم المقهور ربما لم يجد الوطن الدافئ في محنته وهو ما أدى إلى أن يعتبر غزة مسرح كبير متحرك... وحين نود أن نتأمل العلاقة بين عنوان الفيلم " سيمفونية مشاغب" وبين نواف، نجد أن العزف الذي تبناه نواف هو رموز كلها تروي حكاية الوطن المفقود، ويبدو أن السيمفونية الحقيقية هي الثورة التي يجب أن يتبناها الفنان والمثقف من أجل وطن دافئ حر يحضن كل شرائح المجتمع... ينتهي الفيلم على كادر ثابت لشارع طويل يختفي فيه بطل الفيلم.
د. عزالدين شلح
رابط الفيلم