على مر العصور ناضلت الشعوب لإحداث طفرة نوعية تتلائم مع التطورالتاريخي للمجتمعات الإنسانية مقرونةً مباشرة بالظروف الموضوعية ونضوج العامل الذاتي بكونه انعكاس للواقع الإجتماعي الذي يحدّد شكل النُظم الإقتصادية والسياسية لكلٍ منها ماأدى الى التخلص التدريجي من رواسب ومخلفات الماضي البائد حيث دامت إرهاصاته في أوروبا الحديثة على سبيل المثال مايربو على ثمان عقود من التفاعلات تخللته حروب عالمية وأهلية وتقاسم نفوذ وغزوات خارجية قبل أن يستقرّ مسارها التكاملي الراهن ، ولكن لماذا لاينطبق أي نوع من المعايير العامة ولا نقصد الإستنساخ التلقائي على حال المنطقة العربية عندما أرادت الشعوب العربية سبر أغوار التغيير بشكلٍ سلمي تطالب بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية التي ظلـّت حبراً على ورق منذ انفكاك هذه الدول عن قبضة الإستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي والأسباني ، وساد نمط النظام الفردي الإستبدادي معظم هذه الدول حتى أضحى كل شيءٍ يسير بسرعة فائقة باتجاه التدمير الذاتي بالرغم من المتغيرات الكبيرة بالمقارنة مع الحقب الزمنية الظلامية ؟ .
ربما يكون لذلك التدهورالمريع علاقة وثيقة بثقافة المستعمرين انفسهم المستوحاة من سلوك النظام الإمبراطوري القديم الذي زرع بذور الفتنة والفرقة وخلق بؤر التوتر بين كل دولة وأخرى بعد تقسيمها الخبيث ، حين ركـّزت الثروة بيد القلـّة وحرمت الكثرة من مزايا الحياة الطبيعية كما غـذت العصبيات القبلية والنعرات الطائفية والعشائرية النابعة من صلب النظام العائلي البدائي وعبادة الفرد الحاكم على أنه القائد الضرورة الذي يتحكم بمصير البلاد والعباد ويحقّ له مالا يحقّ لغيره باعتبار أن إطاعة أولي الأمر هي من طاعة الله لايجوز الخروج عليها ولا يُسمح لها بالشراكة وتداول السلطة مع الغير ، مايعني بلغة اليوم الحاضر تغييب المؤسسات الناظمة لعمل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية على أرض الواقع ، حتى أن أدوات التغيير أحزاباً وقوىً تحررية على مختلف مشاربها الفكرية والسياسية فشلت هي أيضا بالتصدي للمهمات الوطنية الديمقراطية عندما توّفرت لها الظروف الملائمة في كثيرٍ من الأحيان لأخذ مكانتها وتأدية رسالتها التاريخية لأسباب بنيوية مأزومة أشبه ماتكون بواقع الأنظمة نفسها.
إن السنوات الثلاث الفائتة التي شهدت حراك الشعوب الغاضبة في الوطن العربي الكبير ولا زالت مفاعليها جارية بعد أن وصلت الأزمات السياسية والإقتصادية والإجتماعية ذروتها وفقدان الأجيال الشّابة الأمل بالمستقبل لم تكن وليدة الصدفة أو فعل المؤامرات الخارجية كما يحلو للبعض تبسيط قراءة المشهد المأزوم لواقع الحال العربي للتهرب من قول الحقيقة والإقرار بالفجوة الواسعة بين الحاكم والمحكوم ، بل هي براكين قابلة للإنفجار في كل زمانٍ ومكان نتيجة تراكمات سنين طويلة من الحرمان والقهر واستحواذ القلـّة القليلة على مقدرات وثروات الأوطان بينما لم تستطع هذه الأنظمة من تقديم الحلول المناسبة للقضايا المركزية المصيرية ومواجهة التحديات سواءً كانت على صعيد الصراع العربي الصهيوني الذي تذرّعت به على الدوام تحت شعار كل شيء لصالح معركة التحرير واستعادة الحقوق العربية المغتصبة في فلسطين ، أو في مجالات تكامل العمل العربي المشترك إن لم نقل توحيد المفاهيم والجهود السياسية والإقتصادية وصولاً إلى الهدف الأسمى لطموحات وأماني شعوب المنطقة التي يجمعها عناصرالوحدة أكثر من أي أممٍ أخرى ، حيث استطاعت التجمعات الجيوسياسية ضمن إطار المحيط الواحد تجاوزأحقاد الماضي وأثاره المدمرّة على الجميع ثم اتفقت فيما بينها على تجميع قواها لمواجهة متطلبات الحاضر ورسم سياسات المستقبل وضمان مصالحها المشتركة ، صورة فرضتها وقائع عصر العولمة المتغولة الحديثة ، ينبغي أن تكون لها الأولوية على ماعداها أسوة بإقامة التكتلات السياسية والإقتصادية الناشئة في أوروبا وأمريكا اللاتينية ودول الأسيان .
لكن الذي جرى كان مخيباً لأمال الشعوب إذ انكفأت الأنظمة العربية نحو التقوقع داخل الحدود والإنعزال عن المحيط فضلا عن تهميش دور مؤسسة الجامعة العربية بكافة فروعها التي لم يبقى منها سوى المانشيت العريض الذي يوفر لجيش موظفيها مصدر رزق يعينهم على مواجهة أعباء الحياة المعيشية الصعبة ، ماجعل الغير من الدول الإقليمية الصاعدة تملأ الفراغ الناجم عن غياب فعلها المؤثر وتستثمر قضاياها الجوهرية خدمة لتعزيز مكانتها على الخارطة الدولية ، وأضحى شغلها الشاغل يقتصرعلى المقاومة الشديدة ضدّ تطلعات الشعوب التي بدأت مطلبية عادلةً كان بالإمكان استيعابها لواستجابت لها قبل أن تنزف قطرة دمٍ واحدة ثم حوّلتها إلى صراعات مسلحة باللعب على وتر مكافحة الإرهاب الفزّاعـة التي تـُطرب أذان صانعيه في دهاليز أجهزة المخابرات الأمريكية والغربية والإسرائيلية ، مستخدمة كافة أساليب القمع الوحشي والدمارمن جهه و تمويل الصراعات الداخلية بين أبناء الجلدة الواحدة وتغليب مصالح الغيرعلى مصالحها الوطنية والقومية من جهةٍ أخرى ، مايؤكد تبعية وطغيان هذه الأنظمة التي اختزلت البلدان بأشخاصها ووارثيها مقابل شهوة السلطة الجامحة والحفاظ على مكاسبها المطلقة مهما كانت الكلف والخسائر البشرية الكارثية ، غير أن الحقيقة الماثلة للعيان هي تخطي الشعوب حاجز الخوف والإصرار على استرداد حقوقها الضائعة وعدم امكانية الرجوع إلى الخلف .
لقد وفـّرت الأوضاع المأساوية للمنطقة العربية فرصة نادرة للإدارة الأمريكية وحليفتها الإستراتيجية في تل أبيب للإستفراد بالقضية الفلسطينية التي تشكـّل العنوان الصارخ للإستهتار بالحقوق العربية وتجاهل قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بالشأن الفلسطيني ، وجعلها تستبيح الثوابت من خلال مشروع تصفوي تطلق عليه "اتفاق إطار" مسخ ذو منشأ إسرائيلي ينوي وزير الخارجية الأمريكي"جون كيري" تقديمه خلال الأيام أو الأسابيع القادمة يسعى إلى تكريس واقع الإحتلال وإنهاء حالة الصراع بما يخدم مخططات الإحتلال التوسعية والعنصرية ، لايمكن تمريره بأي شكل من الأشكال نظراً لخطورته التدميرية على جوهر الرواية الفلسطينية ومشروعها التحرري الوطني ، الأمر الذي يتطلب رفض منح المهل المجانية والإسراع بترتيب البيت الفلسطيني واستعادة الوحدة الوطنية فعلاً وليس قولاً ورسم سياسة وطنية في مواجهة العربدة الإسرائيلية ومن يقف خلفها تستند إلى مقاومة الإحتلال وتعزيز صمود المواطن على أرضه واستثمار مزايا الإنجاز المتحقق في الجمعية العامة للأمم المتحدة بالإنظمام إلى الوكالات الدولية وتجريم الإحتلال وقادته أمام محاكم جرائم الحرب الدولية .
لعل من نافلة القول أن هذا الواقع الأليم أتاح المجال لتجريد البلاد العربية من كافة عناصر القوة المفترضة التي عملت عليها طوال السنين لغرض التوازن الإستراتيجي في مواجهة ترسانة إسرائيل النووية التي أضحت القوة الوحيدة في المنطقة المسكوت عنها دولياً لامتلاكها أسلحة الدمار الشامل وترفض الكشف عن برامجها للوكالات الدولية المختصّة ، أليس ذلك المشهد العبثي التعبير الدقيق لوصف مايجري بأنه التدمير الذاتي بكل ماتعنيه الكلمة من معنى؟