تحتل كلمة (الثورة) في العقل والخطاب السياسي الشعبي العربي مكانة مرموقة ويكون استحضارها مخضبا بمعان وإيحاءات وتشوقات لا تخلو من رومانسية مبالغ فيها وغالبا ما يتماهى مفهومها مع مفاهيم التغيير والحرية والديمقراطية والرخاء،أو بكل ما هو نقيض الأوضاع التي عاشها وما زال العرب من استبداد وتخلف وفقر الخ . أيضا يقترن مفهوم الثورة بالانتقال من أنظمة ملكية إلى أنظمة جمهورية وكأن الخلل في النظام أنه ملكي والخلاص يكمن في الأنظمة الجمهورية !، بالرغم من أن التجربة التاريخية للشعوب العربية مع ما سميت بالانقلابات أو (الثورات) وتجربتهم مع الأنظمة الجمهورية التي حلت محل الأنظمة الملكية وكذا واقع وحقيقة الثورات الراهنة لا يتناسب مع ما يُنسب لها من فضائل.
حتى (الثورات) العربية ضد الاحتلال ومن أجل الاستقلال تم كتابة تاريخها اعتمادا على الوجه الإيجابي كنبل فكرة الثورة ضد الاحتلال وعظمة التضحيات و كثرة الضحايا ، مع تجاهل الوجه الآخر منها، وهذا ينطبق على غالبية الثورات من (ثورة) الشريف حسين أو الثورة العربية الكبرى 1915 إلى الانقلابات العسكرية التي سُميت ثورات خلال العقود الثلاثة الموالية للاستقلال.كل هذه الثورات أدت لحكومات عسكرية وحالة طوارئ بل كانت على حساب التجارب البرلمانية والتعددية السياسية التي كانت قبل الثورة .
لن نتحدث عن ثورات التحرر ضد الاستعمار فكلها ثورات مشروعة بغض النظر عن درجة نجاحها ، كما لا يمكن تجاهل أن بعض الثورات السياسية/ الاجتماعية في العالم شكلت منعطفات تاريخية بما أوجدت من أوضاع وأفكار ولو بعد حين كالثورة الفرنسية ، ولكن أيضا كثيرا من الدماء والتضحيات والحرب الأهلية صاحبت الثورات مما أدى لأن تنقلب بعض هذه الثورات وبالا على شعوبها . في بعض المجتمعات كان من الممكن الوصول لأهداف الثورة دون ثورة ، فغالبية شعوب العالم بما فيها المتقدمة لم تعرف ثورات شعبية اجتماعية ومع ذلك حققت أكثر مما حققت الشعوب التي قامت بالثورة . حتى الثورات التي يُقال إنها ناجحة لم تظهر انجازاتها إلا بعد سنوات من الخراب والتدمير . ولو تصفحنا سريعا تاريخ أهم ثورات القرن العشرين فسنجد ما يعزز طرحنا .
تعتبر الثورة الفرنسية من أهم الثورات التي يتم استلهامها أو استحضارها كتجربة ثورية رائدة وهي الثورة التي قامت على حكم الملك لويس السادس عشر عام 1798 وامتدت عشر سنوات. بالرغم من شعارات وقيم الحرية والعدالة والمساواة التي نادت بها الثورة والتي تشكل قطيعة مع شعارات وقيم الإقطاع والاستبداد في مرحلة ما قبل الثورة، إلا أن فرنسا وطوال عشر سنوات من الثورة خضعت لحكم الاستبداد الثوري ممثلا بـ (لجنة السلامة العامة ) وقُتل حوالي 40 ألف فرنسي خصوصا في ظل حكم الثائر روبسبير ، ولم يستقر الحال لفرنسا إلا بعد وصول نابليون بونابرت 1799 الذي مارس فرض الاستقرار الداخلي وعزز المكانة الدولية لفرنسا من خلال حروبه الخارجية إلا أن حكمه كان حكما دكتاتوريا واستمر كذلك حتى عودة النظام الملكي 1815 حيث تم توظيف أفكار الثورة الفرنسية لتأسيس ملكية دستورية.
نفس الأمر بالنسبة للثورة البلشفية (الشيوعية ) أكتوبر 1917 في روسيا بزعامة فلاديمير لينين ، فإن أدت هذه الثورة لنهاية الحكم القيصري والنظام الإقطاعي ،إلا أن الشعب الروسي وبقية الاتحاد السوفيتي خضع لنظام الحزب الواحد تحت شعار (دكتاتورية الطبقة العاملة ) وفي عهد ستالين تم قتل ونفي الملايين بحجة الحفاظ على التجربة الثورية من مؤامرات الأعداء ، وبعد سبعين عاما تقريبا تخلت المجتمعات الشيوعية عن النظام الذي أسسته الثورات الشيوعية لأنها لم تحقق لهم ما يريدون من تقدم ورخاء . أيضا الثورة الصينية 1949 بزعامة ماو تسي تونغ أنتجت نظاما دكتاتوريا ثوريا استمر لعقود ، صحيح أن الصين حققت حديثا نهضة صناعية وحضارية إلا أنها ما زالت بعيدة عن الديمقراطية . والثورة الإيرانية الخمينية أنتجت نظام الملالي والدولة الدينية ، وثورة يوليو 1952 في مصر وبالرغم من انجازاتها الاجتماعية والسياسية إلا أنها أنتجت نظام الحزب الواحد وحكم العسكر (مجلس قيادة الثورة ) .
وهكذا ، بالرغم من كل ما يُنسب للثورات والفكر الثوري عبر التاريخ من إيجابيات ومحاسن وإحالة إلى إرادة الشعب الخ، وبالرغم من أن كل الثورات قامت ضد أنظمة وأسر حاكمة مستبدة ودكتاتورية الخ ، إلا أن المفارقة وكقانون عام أن كل الثورات سواء في الدول المتقدمة أو المتخلفة لم تقترن بالديمقراطية ولم تنتج نظاما ديمقراطيا بل أنتجت ،على الأقل في سنواتها الأولى، أنظمة شمولية وحكما عسكريا استبداديا حتى وإن كان ثوريا، فالجماهير التي قامت بالثورة أو كانت وقودها وأداتها لإسقاط أنظمة مستبدة هي نفسها التي أضفت الشرعية بعد الثورة على حكم العسكر وصنعت مستعبدها الجديد وحملته على الأعناق .!
ما نريد الوصول إليه أن لا علاقة مباشرة وحتمية بين الثورة والديمقراطية أو بين الثورة والرخاء الاقتصادي، فالثورة قد توفر أرضية مناسبة لتحقيقهما لاحقا ، ولكن الديمقراطية والرخاء قد يتحققا بدون الثورة ، بل قد تشكل بعض الثورات انتكاسة للمسار الديمقراطي والتنموي .