تقترب مُهلة الأشهر التسعة الأميركية الممنوحة للمفاوضات من نهايتها من دون حسم واضح حتى الآن، بالرغم من الخطة الأميركية العتيدة المُطروحة تحت عنوان «إطار الحل الانتقالي طويل الآمد» وترتيباته الأمنية، فيما يعتقد آخرون أن الأسابيع القليلة المقبلة حتى مطلع شهر مارس القادم 2014 يُمكن لها أن تكون حاسمة، وهو ما عبّرت عنه وزيرة العدل «الإسرائيلية» تسيبي ليفني، التي ترأس طاقم الطرف «الإسرائيلي» إلى المفاوضات حين قالت قبل أيام بأن «الفلسطينيين سيوافقون في نهاية المطاف على يهودية الدولة» كشرط «إسرائيلي صهيوني» مُسبق للتوقيع على اتفاق الإطار، وهو ما لانعتقد به، فالجواب الفلسطيني العام (لا) أما الجواب الرسمي الفلسطيني فسيكون على الأرجح تحت عنوان (لعم)، والرسالة التي أرسلها الرئيس محمود عباس إلى الإدارة الأميركيّة ولعموم الأطراف العربيّة والدوليّة المعنيّة، وما تضمّنته من مواقف وأسئلة، تُعزز ماذهبنا إليه.
شرط الاعتراف الفلسطيني والعربي (لاحظوا : الاعتراف العربي وليس الفلسطيني فقط) بـ «يهودية الدولة» ليس هو الشرط الوحيد المطروح «إسرائيلياً» فقائمة الاشتراطات «الإسرائيلية» طويلة وإن تلونت بلغة ملتوية ومنها مايتعلق بنسف قضية اللاجئين وحق العودة ومسألة حدود الكيان الفلسطيني وسيادته ومسألة منطقة الغوار ...إلخ.
الطرف «الإسرائيلي» ينطلق في إصراره على مسألة ومقولة «يهودية الدولة» من موقع «قلق المستقبل» في دولة ظافرة قامت قيامة غير طبيعية وعلى حساب الحقوق الوطنية والقومية للشعب العربي الفلسطيني الذي تعرض لعملية ترانسفير كاملة عام النكبة. كما أن تلك المقولة باتت في موقع «الإجماع الكامل» تقريباً بين مختلف الكُتل الحزبية داخل الدولة العبرية الصهيونية، حيث ترى تلك الأحزاب بعمومها بأن «الحرب السياسية التي تخوضها إسرائيل اليوم أهم لمستقبلها من حرب الاستقلال عام 1948» على حد تعبير رئيس الأركان السابق وزعيم حزب العمل الجنرال شاؤول موفاز، معتبراً في الوقت نفسه أن تلك المسألة تأتي في سياق «تأمين ركائز «الدولة العبرية الصهيونية» التي تتعرض كما قال ولأول مرة منذ تأسيسها للمخاطر في مجتمع قام على العسكرة.
القلق المُشار إليه، ونعني به «قلق المستقبل» الذي تُفصح عنه كل يوم كتابات عموم الأنتلجنسيا «الإسرائيلية» وأحزاب الدولة العبرية الصهيونية يُتخذّ الآن ذريعة لتحشيد الموقف الأميركي وحتى الأوربي وراء الموقف «الإسرائيلي» بصدد الإصرار على مقولة واشتراط «الدولة اليهودية». فالجنرال (موشيه يعلون) القائد العسكري والأمني البارز والذي إمتدح قدرة ما أسماه «الشعب الإسرائيلي» على الصمود في الصراع الدائر مع الفلسطينيين، بات يقول في تصريحات علنية بأن «قدرة المجتمع الإسرائيلي على الصمود محدودة للغاية» في بيئة داخلية في المجتمع «الإسرائيلي» تَشهد تحولات ديمغرافية مع النمو السكاني العربي الفلسطيني داخل حدود العام 1948» وفي بيئة عالمية مُتغيرة تشهد كل يوم إرهاصات توالد عالم متعدد الأقطاب.
وفي حقيقة الأمر، إن دولة «إسرائيل» الصهيونية، وبحكم نشأتها الطارئة والمُلتبسة، ككيان استعماري استيطاني وكـ «دولة وظيفية»، وبحكم تكوينها الإثني القومي، تجد نفسها اليوم أمام تحولات داخلية عميقة من حين لأخر، تكتسي كل يوم أثواباً جديدة من الحراكات التي تُبشر بإنحسار المشروع الصهيوني نهاية المطاف، وانسداد الآفق أمام المشروع الصهيوني الذي بشّرَ به وعمل من أجله تيودور هرتزل وفلاديمير جابتونسكي وديفيد بن غوريون. فـ «إسرائيل» المُنتعشة بروح الغطرسة وهي في ذروة قوتها وتجبُرها وتفوقها وقوتها العسكرية والاقتصادية واحتكارها السلاح النووي، لم تكن قلقة على مُستقبلها ومكانتها بقدر ما هي عليه اليوم. حيث تعيش الأوساط الصهيونية ونُخبها الحاكمة وخاصة المؤسسة العسكرية حالة من الأرق والخوف من المستقبل الآتي. وتتصاعد حالة الأرق والخوف مع المتغيرات التي تقع كل يوم بالنسبة لتراجع ميزان الهجرة الاستيطانية التوسعية إلى فلسطين عما كانت عليه بالنسبة لسنوات ماضية، ومع تراجع شعور الانتماء لدى اليهود الجدد الذين أتوا إلى فلسطين في موجات الهجرة الأخيرة من دول الاتحاد السوفياتي السابق وتنامي ظاهرة التباينات الطبقية والإثنية بينهم، إضافة لتراجع الانشداد العاطفي من قبل يهود العالم تجاه «إسرائيل»، فضلاً عن تحولات الميزان الديمغرافي على أرض فلسطين التاريخية مسنوداً بتواصل الكفاح الوطني الفلسطيني. والأهم من كل ذلك صمود الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، فهل نعطي الكيان العبري الصهيوني صكاً جديداً في ذروة قلقه التاريخي بمنحه ورقة القبول الفلسطينية والعربية بما يسمى «يهودية الدولة» وهي المقولة التي تُعاكس المنطق والتاريخ وتنسف رواية النكبة وتؤكد الرواية الميثولوجية التوراتية الصهيونية ..!
في هذا السياق، كانت قد صدرت في تل أبيب ثلاث دراسات (مُتنورة نسبياً في مجتمع يضج بأصوات اليمين واليمين المتطرف) قبل فترة ليست ببعيدة، تُسجّل كلها أن مُستقبل «إسرائيل العبرية» سيبقى مهدداً ومجهول المصير، إذا ما استمر النهج الصهيوني رافضاً الاعتراف الفعلي والعملي بحقوق الشعب الفلسطيني. فالوثيقة الأولى: هي كتاب ألفه رجل المخابرات (متاي شتاينبرغ)، وعنوانه (يقفون أمام مصيرهم) والمؤلف مستشار سابق لأربعة رؤساء لجهاز الأمن العام «الإسرائيلي» (الشاباك) وينطلق من فكرة أساسية مؤداها أن على «إسرائيل» لكي تنجز تسوية ما تضمن مصالحها على المدى الطويل، أن تنسحب إلى حدود (4 يونيو1967) ولا يقدم المؤلف هذه الملاحظات كنصيحة فنية، بل لرؤية يؤمن بها، فهو يعتقد أن امتناع «إسرائيل»، أو التُهرب من دفع الثمن الذي تتطلبه التسوية (أي الانسحاب إلى حدود 1967) ينطوي على مخاطر على وجود دولة كيان «إسرائيل».
والوثيقة الثانية: هي دراسة صادرة عن جامعة حيفا تحت عنوان «دولة تل أبيب تهديد لإسرائيل» وأنجزها البروفيسور (أرنون سوفير)، وتستعرض الدراسة ما تسميه مخاطر السياسات الخاطئة وعوامل الانهيار الذاتي.
والوثيقة الثالثة: هي دراسة صادرة عن مركز «أدفا» بعنوان (عبء النزاع الإسرائيلي الفلسطيني)، ومحررها هو البروفيسور (شلومو سيبريسكي)، حيث تقول الدراسة إن النزاع مع الفلسطينيين أشبه بحجر الرحى على عنق «إسرائيل»، فهو يقوّض نموها الاقتصادي، ويُثقِلُ كاهل ميزانيتها، ويحدُ من تطورها الاجتماعي، ويَضُرُ بمكانتها الدولية، ويستنزف جيشها، ويهدد ساحتها السياسية، ويهدد مُستقبل وجودها. وتقّرُ الدراسة بأن على «إسرائيل» العمل من أجل حل يستند إلى قرار التقسيم لعام 1947 .
وهنا نشير إلى أن الزعيم الصهيوني التاريخي ناحوم غولدمان لم تفته مقولة بن غوريون وهو يكتب مقالته التي نشرها في مجلة «الفورين أفيرز» سنة 1975، إذ نبه غولدمان إلى أنه «لا يوجد لـ «إسرائيل مٌستقبل على المدى الطويل دون تسوية سلمية مع العرب»، واعترف بأن «مطالبة الصهاينة بدولة يهودية، تتعارض بشكل تام مع إمكانية البقاء على المدى البعيد». كما نستذكر رفض ألبرت اينشتاين عالم الفيزياء اليهودي الأوروبي وصاحب النظرية النسبية عرض دافيد بن غوريون له بأن يكون أول رئيس لـ «إسرائيل» حين إعلانها العام 1948 واصفاً هذه الدولة بأنها ستقود يهود العالم إلى الكارثة. وعليه، فإن الإصرار «الإسرائيلي» على مقولة «يهودية الدولة» يعكس في جوهره انكسار تلك المقولة.. وللحديث تتمة طويلة.
صحيفة الوطن القطرية
الأربعاء 19/2/2014