خبز الطابون

بقلم: أسامه الفرا

الزمن الجميل هذا ما نصف به الماضي، نستحضر صورة قديمة منه أو حكاية لنطيل الغزل فيها، ونمسح الغبار عنها بآهات نتحسر بها على ما فات، أليس الحاضر هو همزة الوصل بين الماضي والمستقبل؟، وان فقد الحاضر الكثير من جمال الماضي، فهل يقود ذلك لتخلي المستقبل على ما تبقى من أطلاله؟، هل حقاً الماضي بمثل هذه النضارة التي نتغنى بها فيما الحاضر فقد جماله وهيبته؟، أم أن مقاييس الجمال لدينا اليوم تقتصر على الظاهر دون الباطن؟ وهذا يدفعنا للتنقيب في الماضي عن الجوهر الذي ينكمش في الحاضر.

عادة ما نتخذ التطور العمراني مقياساً رئيسياً، وأحيانا وحيداً، في تقييم تطور الأمم والشعوب، والتطور العمراني الذي نعنيه لا يتعلق بعلم العمران بجوانبه المختلفة الذي تناوله ابن خلدون في مقدمته في القرن الرابع عشر الميلادي، والذي بات يعرف اليوم بعلم الاجتماع، فيما التطور العمراني الذي نقصده هنا يتعلق بالتطور في المنشآت والمباني الخرسانية وادوات الحياة، بمعنى أننا نرصد تطور الجماد دون أن نرصد ما رافقه من تغيير في سلوك المجتمعات، فما تلتقطه عقولنا يقتصر عما تمددت بها المدن طولاً وعرضاً، وما صوره العقل الباطني من تطاول في البنيان وقدرة هندسية في التصميم وابداع في تقنية الاتصالات، حتى وان أخذت شكل مساحيق التجميل لسيدة تبحث عن اخفاء علامات الزمن أكثر مما يعنيها رؤيتها ودورها في المجتمع الذي تعيش فيه.

مؤكد أن التطور في المنشآت والمباني رافق الانسان منذ تحوله من حياة البداوة الى الحياة الحضرية، والمؤكد ايضاً أن هذا التطور رافقه تغيير في سلوك ونمط حياة المجتمعات، ولكن ليس بالضرورة أن هذه المجتمعات سارت نحو التطور والرقي بنفس وتيرة تطور مبانيها ومنشآتها، ما يهمنا بالمقام الأول ما لحق بالانسان من تطور في ثقافته ومنهجيته في الحياة، وأعتقد أن هذا هو لب التطور العمراني الذي تحدث عنه ابن خلدون، وهو في الوقت ذاته ما يجب أن يسترعي انتباهنا.

لا شك أن اليوم يختلف عن الأمس، وما وصل اليه العلم من ابتكار من المفترض أن يجعل الحياة أكثر سهولة، لكنها باتت معه أكثر تعقيداً، وطغت بماديتها على مفردات السلوك البشري، فهل حقاً الحياة أجمل دون تلفاز وانترنت وهاتف نقال؟، وهل هي أروع دون ثلاجة وغسالة وميكروويف؟، وهل هي أكثر رومانسية دون كهرباء؟، وهل الخيمة احن على قاطنيها من المنازل الحجرية؟، وهل ضجيج السيارات الذي غيب الهدوء أفقدها منزلتها في التغلب على عناء السفر؟، لماذا يحن درويش الى خبز امه وقهوتها؟، ولماذا نتوق الى كأس من الشاي على النار ونحن نطوق الحطب المشتعل؟.

الحقيقة أننا نبحث في صور الماضي الجميل عن قيم تاهت مع تطور الحياة، لم يعد التواصل البشري يحمل الروح التي كانت بالماضي، توسعت ادواته في عصرنا وقربت البعيد وجعلت من هذا الكون كوخاً في قرية، الا أنها افقدت النفس البشرية الكثير من مكوناتها وحولتها الى آلة تخلت معها عن أحاسيسها ومشاعرها، مؤكد أننا لا نعشق خبز الطابون، والدليل أننا لم نجده في الطابون الذي جيء به عنوة الى الأماكن السياحية، بل نجد قيمنا في خيمة الطابون ونحن نلتف حول عمودها «الأم» وهي توزع علينا مشاعر لا تقوى على نقلها الينا أدوات تواصل العصر الحديث.

الصورة الصماء من الماضي ليست اجمل من مثيلتها في الحاضر، لكنها بالمؤكد أجمل وأنقى في جوهرها وبما تحمله من حب وتكاتف وتعاضد، نخطئ ان اعتقدنا أن تطور الأمم مرتبط بتطور الجماد فيها، بل المقياس الحقيقي لتطورها يرتبط بتطور السلوك البشري، ولعله هو الفارق الذي نبحث عنه في الماضي ونفتقده في الحاضر.