كان قديماً يقتصر الأمر على المؤرخ، يحاول من خلال كتابته أن يمعن النظر في الأحداث ويخضعها للتحليل بعد التدقيق، وكان القارئ يجهد ذاته في تحديد انعكاس الماضي على الحاضر، عله في ذلك يستشرف شيئاً من المستقبل، ورغم الحياد المطلوب في المؤرخ إلا أن هذه الصفة عادة ما تختفي في مداد كلماته الأولى، لينقل بعدها رؤيته التي عادة ما تصبغ لونها معتقداته الفكرية، لكن على اي حال كتبة التاريخ في الماضي أقلية، فيما يعج الحاضر بهم، لم يعد الأمر يقتصر على الباحثين ممن يستحضرون المنهج العلمي في دراسة الأحداث، بل زاحمهم في ذلك فئات عدة، بدءاً من القائد والحاكم والسلطان عبر مذكراته التي يربط بها بين الخاص والعام، مروراً بالمقيمين عند عتبة السلطان وما يصل إلى آذانهم من مفردات عادة لا تنقل الصورة الكاملة، وصولاً إلى خادم السلطان ومصفف شعر القائد وطباخ الرئيس.
بقدر ما كانت ضحالة المعلومات مشكلة في الماضي لكتابة وتحليل الأحداث، بقدر ما اصبحت وفرتها ووجودها في متناول العامة معضلة اكبر، كون تزاحم الفضاء بها خلق حالة من الإرباك، خاصة أن المعلومة مع سرعة وتيرة الحياة لم تعد تخضع لإعمال العقل والمنطق، حيث تنتقل وتنتشر على علاتها وما تحمله من شوائب وفي أحيان كثيرة مجافاة الحقيقة والواقع، وفي الوقت ذاته لم يعد بمقدور أحد الادعاء بأنه يملك الحقيقة، حتى وإن حاول أن يضعها في قالب المطلق، فكثيراً ما تلفظ الحقيقة أنفاسها في بحر المطلق.
الاهتمام بالتاريخ كتابة وقراءة يختلف من أمة إلى أخرى، أميركا لا تلتفت البتة إلى التاريخ القديم، التاريخ لديهم يبدأ مع حربهم الانفصالية عن التاج البريطاني نهاية القرن الثامن عشر، وتاريخ الهنود الحمر ليس جزءاً منه، ترى لو كتب الهنود الحمر تاريخ أميركا هل يمكن له أن يحمل شيئاً من تاريخ أميركا الذي يدرس اليوم وتكتظ به المكتبات الأميركية؟.
نحن نعشق التاريخ ونصول ونجول في ردهاته، نمتلك منه ما لا يمتلكه الكثير، نطرب له ونتغزل فيه، نستحضر الجميل منه ونخفي ما فيه من عيوب، لا يعنينا دروسه وعبره بقدر ما نجلبه لنتحسر على أيامه، نقرأ ماضيه ولا نكتب حاضره، لا يعنينا من سيكتب الحاضر منه، من الطبيعي ألا نكترث لمن سيقوم بتدوينه إن كانت الحكومة أم المعارضة، إن كان الحاكم أم المحكوم على أمره، إن كان القائد أم المرافق، إن كان المؤرخ أم المخبر، لكن ما يجب ألا نسمح به أن يكتب أعداؤنا تاريخنا.
من قال إن التاريخ لا يسرق؟، ومن يدعي أن تاريخنا لا يسرق من بين ايدينا فهو يجافي الحقيقة، الحقيقة الواضحة وضوح الشمس أن سرقة الأرض لا بد وأن تواكبها سرقة التاريخ والتراث والجذور، الاحتلال أدرك هذا منذ أمد لذا هو يعمل على كتابة التاريخ بطريقته، حتى وإن اعتقدنا أن سرقة صحن الحمص من أكلاتنا الشعبية لتصبح من أكلاته المتوارثة هي مجرد تفاهة، وأن يسجل الثوب الفلاحي ضمن ماركاته المسجلة هي مجرد هذيان، وأن اقتلاع حجر صخري من شوارع القدس العتيقة هو مجرد ترميم.
لعل الأمر لا يتعلق بسرقة التاريخ رغم خطورته، بل بما يطيره الاحتلال لنا من اخبار نلتقطها على عواهنها ونبني عليها، وكل ما نخشاه أن يكتب التاريخ على قواعدها، حينها لن يكون ذلك التاريخ تاريخنا بقدر ما يكون التاريخ الذي كتبه الأعداء لنا.