لقد رنا الإنسان لامتلاك حريته، وتحقيق المساواة، والعدالة الاجتماعية، عبر كافة العصور التي مرّ بها تطور الدولة ونظم الحكم فيها، ومع سيادة فلسفة المذهب الليبرالي الحر، انبثقت عنه نظم ديمقراطية، قيدت سلطة الحكم، وحققت أعلى منسوب للحرية الفردية، ولكن بقيت المساواة، والعدالة الاجتماعية، لا تتعدى المستوى الشكلي والقانوني، في حين أن الواقع يكشف أنه هناك أكثر من سبب وعامل يحول دون تحقيق المساواة الفعلية، والعدالة الاجتماعية الحقيقية، حتى في أكثر الدول ديمقراطية وتقدماً سياسياً، مما أنتج أكثر من تطبيق للديمقراطية، بين الدول التي أخذت هذا النهج في دساتيرها، وحكم ذلك جملة من الأسباب والعوامل، التي يتباين تأثيرها في ذلك، من دولة إلى أخرى، وفق محددات، قانونية، وسياسية، واجتماعية، واقتصادية متباينة بين الدول والمجتمعات المختلفة.
ودولنا العربية وشعوبها قد طمحت ولا زالت تطمح إلى تحقيق الديمقراطية، وما يترتب عليها من حرية، ومساواة، وعدالة اجتماعية، وقد مثل هذا الثالوث المشترك، هدفاً لانتفاضات الشعوب العربية، التي بدأت مع الانتفاضة التونسية، وما تبعها من انتفاضات وتحركات للشعوب العربية، ولكن النتيجة لم تأتي على مستوى تطلعات هذه الشعوب، ما يكشف لنا عن حقيقة أن الديمقراطية ((ليست وصفة طبية سهلة التحضير والتناول من قبل الشعوب، حكاماً ومحكومين)) فتنتج نظاماً ديمقراطياً يقضي على الاستبداد والفساد، ويحقق المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية دفعة واحدة، كما أن الديمقراطية ليست وصفة لطبق شهي، يمكن إعداده في أي مطبخ ونحصل على الطبق المبتغى، إن ذلك لا وجود له على أرض الواقع وإنما في خيال الحالمين الذين استهوتهم بعض التجارب في الدول العريقة في الديمقراطية، وإن درج فقهاء السياسة والقانون، على تعريف الديمقراطية بأنها ((حكم الشعب بالشعب أو بمفوضين نيابة عنه لصالح الشعب، وبإعتماد آلية الانتخابات التي تقضي إلى انتخاب ممثلين للشعب على مستوى السلطتين التشريعية والتنفيذية)) فقد يصح ذلك التعريف في التجريد الشكلي والقانوني، لوصف الديمقراطية، ولكن المشكلة ليست في هذه الآليات، بقدر ما تكمن في مدى أهلية المجتمع، ونخبه السياسية، للتعاطي مع الديمقراطية كنظام وفلسفة سياسية، تقوم على أساس وحدة الدولة والمجتمع وسيادة القانون، والقبول بالإختيار الحر للحاكمين من قبل المحكومين، والإلتزام بمبدأ التداول السلمي للسلطة، عبر الاحتكام لرأي الشعب من خلال صناديق الإقتراع، والابتعاد عن العنف لتحقيق الأهداف السياسية، قولاً وعملاً وفلسفة، والإيمان المطلق بالتعددية السياسية، وقبول الآخر، والدفاع عن حريته التي لا تتعارض ووحدة الدولة، وسيادة القانون، ووحدة المجتمع، لذلك باختلاف الدول والشعوب أمام هذه العوامل والأسباب شهدنا صوراً متباينة للتطبيق الديمقراطي.
ومن أجل أن تتحقق تلك المبادئ الأساسية للحكم الرشيد والديمقراطي، لابد من نضج مفهوم ((المواطنة)) والذي يحكم العلاقة بين الفرد والدولة، وبموجبه يتم التخلي عن الولاءات الضيقة، أو الواسعة، على السواء لصالح الولاء الوطني الذي يتساوى فيه جميع أفراد الشعب حكاماً ومحكومين، فالتخلي عن الولاءات القبلية أو الجهوية، والطائفية والدينية أو أية مفاهيم أخرى تنتقص من الوطنية، أو تعلو عليها، تعد شروطاً أساسية لنجاح التطبيق الديمقراطي، الذي يقرب النظم الديمقراطية من مبتغاها وأهدافها في تحقيق الحرية والعدالة والمساواة، وحل إشكاليات التنازع القائمة مابين الهويات الوطنية وما دونها أو ما فوقها.
بناء على ما تقدم فإن الديمقراطية ليست شكلاً واحد، أو نموذجاً معيناً بعينه، يمكن نقله كما هو، من مكان إلى آخر، ومن دولة إلى أخرى، فكل نموذج محكوم بمسار تاريخي سياسي قانوني اجتماعي تراكمي خاص، أنجب وأنضج الصور الديمقراطية المختلفة، التي يشهد تطبيقاتها العالم اليوم، ونحن هنا لا نعقد المسألة، خوفاً من الديمقراطية، بقدر ما نقوم بعملية توصيف، تنقلنا من الخيال السياسي المثالي، إلى واقع التطبيق، كي لا تتحقق الصدمة، عندما نجد أننا قد بدأنا بالمسار الديمقراطي وأن كل شيء لم يتحقق دفعة واحدة، بل علينا أن نأخذ بالحسبان الإخفاقات المتوقعة، والتراكم التدريجي للتطبيق الديمقراطي، والأكثر من ذلك الفوضى التي قد تتسلل إلى النظام باسم الديمقراطية، وهي أخطر من الاستبداد الذي عانت منه الشعوب عبر التاريخ، لأن الفوضى فيها الهلاك، وفيها حرب الجميع ضد الجميع، وتفتت الدول والمجتمعات، وهذا ما نحذر من وقوعه في عالمنا العربي، الذي لا زال يخطو خطواته الأولى نحو تطلعاته المشروعة نحو الحكم الديمقراطي الرشيد، لا نحو سيادة الفوضى والتقسيم وتدمير الدولة باسم الديمقراطية.
إن الدولة ذات المؤسسات القوية من جيش، وأمن، ومؤسسات اقتصادية، ومنظمات سياسية، واجتماعية راشدة، تعلي من شأن وحدة المجتمع والدولة وسيادة القانون، هي الأقدر، بل هي الوعاء الأمثل لنجاح التطبيق الديمقراطي، في حين أن الدول الهشة والضعيفة والتي لا تتوفر على مثل تلك المؤسسات، فإن الديمقراطية بالنسبة لها تعني شيئاً وحيداً وهو سيادة الفوضى والتفتيت وإنعدام الأمن والاستقرار، فالديمقراطية هي مسار تحول تاريخي سياسي واجتماعي واقتصادي وقانوني خاص، قبل أن تكون مجرد آلية اختيار للحاكمين من قبل المحكومين، لابد أن يأخذ مساره ومراحله ومتطلباته الضرورية حتى يكتمل التطبيق.